Rechercher des Cours par mots clés

Rechercher des cours par Filière :

الثبات والمرونة

يكاد الذين يكتبون عن الإسلام ورسالته وحضارته في عصرنا ، ينقسمون إلى فئتين متقابلتين:
فئة تبرز جانب المرونة و التطور ، في أحكام الإسلام وتعاليمه ، حتى تحسبها عجينة لينة قابلة لما شاء الناس من خلق وتشكيل ، بلا حدود ولا قيود.
وفي الشق الآخر فئة تبرز جانب الثبات والخلود ، في تشريعه وتوجيهه ، حتى يخيل إليك أنك أما صخرة صلدة ، لا تتحرك ولا تلين.


وهذا هو عيب كثير من البشر ، حيث ينظرون إلى القضايا من جانب واحد ، مغفلين بقية الجوانب ، على ما يكون لها من أهمية قصوى ، فيجنحون إلى الافراط أو التفريط.
وقليل من الكاتبين هو الذي سلم من غلو المفرطين ، وتقصير المفرطين ، وكانت رؤيته واضحة لهذا المنهج الالهي الفريد الذي قام على أساسه مجتمع رباني انساني ، وحضارة متكاملة متوازنة.
والحقيقة أن المجتمع المسلم قد اختص بظاهرة فذة ،  تعتبر من أبرز ما يميزه عن سائر المجتمعات الأخرى ، تلك هي ظاهرة التوازن ، وإن شئت قلت : ظاهرة الوسطية : التي يشير إليها قوله تعالى :[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] {البقرة:143} .


وأن من أجلى مظاهر التوازن والوسطية التي يتميز بها نظام الإسلام ، وبالتالي يتميز بها مجتمعه عن غيره : التوازن بين الثبات والتطور ، أو الثبات والمرونة ، فهو يجمع بينهما في تناسق مبدع ، واضعاً كلاً منهما في موضعه الصحيح... الثبات فيما يجب أن يخلد ويبقى ، والمرونة فيما ينبغي أن يتغير ويتطور.
وهذه الخصيصة البارزة لرسالة الإسلام ، لا توجد في شريعة سماوية ولا وضعية.
فالسماوية ـ عادة ـ تمثل الثبات : يلاحظ أن الشرائع السماوية قبل الإسلام كانت مرحلية ، لزمن موقوت ، ولقوم مخصوصين ، فلم تكن في حاجة إلى المرونة ، التي تؤهلها للعموم والخلود ، بخلاف الإسلام ، الذي بعث رسوله إلى الناس كافة ، وختم به النبيون ، بل الجمود أحياناً ، حتى سجل التاريخ على كثير من رجالاتها وقوفهم في وجه الحركات العلمية والتحريرية الكبرى ،  ورفضهم لكل جديد في ميدان الفكر أو التشريع أو التنظيم.


وأما الشرائع الوضعية ، فهي تمثل ـ عادة ـ المرونة المطلقة ، ولهذا نراها في تغير دائم ، ولا تكاد تستقر على حال ، حتى الدساتير التي هي أم القوانين ، كثيراً ما تلغي بجرة قلم ، من حاكم متغلب ، أو مجلس للثورة أو برلمان منتخب ، انتخاباً صحيحاً أو زائفاً ، حتى يصبح الناس ويمسوا وهم غير مطمئنين إلى ثبات أي مادة ، أو قاعدة قانونية ، كانت بالأمس موضع التجلة والاحترام.


ولكن الإسلام ، الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية ، أو دع الله فيه عنصر الثبات والخلود ، وعنصر المرونة والتطور ، معاً وهذا من روائع الاعجاز في هذا الدين ، وآية من آيات عمومه و خلوده ، و صلاحيته لكل زمان وكل مكان.


ونستطيع أن نحدد مجال الثبات ، ومجال المرونة ، في شريعة الإسلام ، ورسالته الشاملة الخالدة ، فنقول:
إنه الثبات على الأهداف والغايات والمرونة في الوسائل والأساليب.
الثبات على الأصول والكليات ، والمرونة في الفروع والجزئيات.
الثبات على القيم الدينية والأخلاقية ، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.


الثبات والتطور في الحياة والكون:
وربما سال سائل : لماذا كان هذا هو شأن الإسلام ؟ لماذا لم يودعه الله المرونة المطلقة أو الثبات المطلق؟
والجواب : أن الإسلام بهذا ، يتسق مع  طبيعة الحياة الانسانية خاصة ، ومع  طبيعة الكون الكبير عامة ، فقد جاء هذا الدين مسايراً لفطرة الانسان وفطرة الوجود.
أما طبيعة الحياة الانسانية نفسها ، ففيها عناصر ثابتة باقية ما بقي الانسان وعناصر مرنة قابلة للتغير والتطور.
فالإنسان اليوم قد اتسعت مداركه ، وارتقت معارفه ، وازدادت قدرته على تسخير القوى الكونية من حوله ، والانتفاع بها ، حتى استطاع أن يصعد إلى القمر ويعيش فوق ظهره أياماً معدودة ، يكتشف مجاهيله ، ويحمل إلى أهل الأرض نماذج من ترابه وصخوره.


ولكن هل تغير جوهر إنسان اليوم ، عن جوهر إنسان ما قبل التاريخ؟ وما بعد التاريخ؟
هل تغير جوهر الإنسان المعاصر ، الذي صعد إلى كوكب القمر ، عن الانسان الذي لم يكن يعرف كيف يواري سوأة أخيه ، حتى علمه الغراب؟
كلا : إن جوهر الإنسان واحد ، إن تطورت معارفه ، وتضاعفت امكاناته.
فالإنسان منذ عهد أبيه الأول إلى اليوم ، يأكل ويشرب ويحب الخلود ، ويضعف عزمه أمام دوافع النفس من داخله ،  أو وساوس الشر من خارجه ، فيعصي ويغوي ، ثم يصحو ضميره ، ويشعر بالذنب فيرجع ويتوب ، ليبدأ صفحة بيضاء من جديد.


رأينا ذلك في قصة آدم أبي البشر ، وأكله من الشجرة التي نهى عنها بعد أن وسوس له الشيطان ، ودلاه بغرور ، وأوهمه أنها شجرة الخلد ، والملك الذي لا يبلى [وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى] {طه:122} .
ويوجد في بني الإنسان الشرير الذي يحسد أخاه فلا يتورع عن قتله طغياناً بلا ذنب جناه.
كما يوجد الإنسان الخير المهذب الذي لا يقترف الشر ولا يفكر فيه ، ولا يقابل السيئة ، وقد رأينا ذلك في قصة ابني آدم ، التي قصها الله علينا بالحق ، حين حسد أحدهما أخاه فقتله ، فأصبح من الخاسرين ، على حين أبى الآخر أن يبسط يده إليه بسوء قائلاً: [إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ] {المائدة:28} .
ولا زلنا نراها في ألوف وملايين من ذرية آدم ، يتمثل فيها (قابيل وهابيل) كما يسميان وستظل البشرية تراها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


وإذا نظرنا إلى الكون من حولنا ، و جدناه يحوي أشياء ثابتة ، تمضي ألوف السنين وألوف الألوف وهي هي : أرض وجبال ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، ونجوم مسخرات بأمر الله ، كل في فلك يسبحون.
وفيه أيضاً عناصر جزئية متغيرة ، جزر تنشأ ، وبحيرات تجف ، وأنهار تحفر ، وماء يطغى على اليابسة ، ويبس يزحف على الماء ، وأرض ميتة تحيا ، وصحاري قفر تخضر ، وبلاد تعمر ، و أمصار تخرب ، وزرع ينبت وينمو ، وآخر يذوي ويصبح هشيماً تذروه الرياح.
هذا هو شأن الإنسان وشأن الكون ثبات  وتغير في آن واحد ، ولكنه ثبات في الكليات والجوهر وتغير في الجزئيات والمظهر.


فإذا كان التطور قانوناً قائماً في الكون والحياة ، فالثبات قانون قائم فيها كذلك بلا مراء.
وإذا كان في الفلاسفة من قديم ، من قال بمبدأ الصيرورة والتغير باعتباره القانون الأزلي الذي يسود الكون كله ، فإن فيهم من نادى فضد ذلك ، واعتبر الثبات هو الأساس ، والأصل ا لكلي العام للكون كله.
والحق أن المبدأين كليهما من الثبات والتغير يعملان معاً ، في الكون و الحياة كما هو شاهد وملموس.
فلا عجب أن تأتي شريعة الإسلام ملائمة لفطرة الكون ، وفطرة الإنسان جامعة بين عنصر الثبات وعنصر المرونة.
وبهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم أن يعيش ويستمر ويرتقي ثابتاً على أصوله وقيمه وغاياته متطوراً في معارفه وأساليبه وأدواته.


فبالثبات يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء ، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى أو التفكك إلى عدة مجتمعات تتناقص في الحقيقة وإن ظلت داخل مجتمع واحد في الصورة ، بالثبات يستقر التشريع وتتبادل ا لثقة وتبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة ، وأسس راسخة لا تعصف بها الأهواء والتقلبات السياسية والاجتماعية ما بين يوم وآخر ، وبالمرونة يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن ، و تغير أوضاع الحياة دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية.


ولكن ما هي مظاهر الثبات والمرونة في شريعة الإسلام؟ وما  دلائل ذلك ؟ هذا ما  نبينه في الصفحات التالية:
دلائل الثبات والمرونة في مصادر الإسلام وأحكامه:
إن للثبات و المرونة مظاهر ودلائل شتى ، نجدها في مصادر الإسلام ، وشريعته وتاريخه ، يتجلى هذا الثبات في : (المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع)  من كتاب الله ، وسنة رسوله ، فالقرآن هو الأصل والدستور ، والسنة هي الشرح النظري ، والبيان  العملي للقرآن وكلاهما مصدر إلهي معصوم ، لا يسع مسلماً أن يعرض عنه : [قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] {النور:54} . [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] {النور:51} .
وتتجلى  المرونة في المصادر الاجتهادية التي اختلفت فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق ومقل ومكثر، مثل : الاجماع ، والقياس ، والاستحسان ، و المصالح المرسلة وأقوال الصحابة ، وشرع من قبلنا ، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد ، وطرائق الاستنباط.


وفي أحكام الشريعة ـ نريد بالشريعة هنا ما هو أعم من الجانب القانوني في رسالة الإسلام بل المراد : ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وغيرها ـ نجدها تنقسم إلى قسمين بارزين :
ـ قسم بمثل الثبات والخلود.
ـ وقسم بمثل المرونة والتطور.


نجد الثبات يتمثل في العقائد الاساسية الخمس ، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهي التي ذكرها القرآن في غير موضع كقوله تعالى :[لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] {البقرة:177} . وقوله :[ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا] {النساء:136} .
وفي الأركان العملية الخمسة من الشهادتين ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام ، وهي التي صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بني عليها.


وفي المحرمات اليقينية ، من السحر ، وقتل النفس ، والزنى ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات والتولي يوم الزحف ، والغصب ، والسرقة ، والغيبة والنميمة ، وغيرها ، مما ثبت بقطعي القرآن و السنة ، وفي أمهات الفضائل من الصدق والأمانة ، والعفة والصبر ، والوفاء بالعهد ، والحياء وغيرها من مكارم الأخلاق ، التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.


وفي شرائع الإسلام القطعية في شؤون الزواج والطلاق والميراث والحدود والقصاص ، ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة .
فهذه كلها أمور ثابتة ، تزول الجبال ولا تزول ، نزل بها القرآن الكريم ، وتواترت بها الأحاديث ، وأجمعت عليها الأمة ، فليس من حق مجمع من المجامع ولا من حق مؤتمر من المؤتمرات ، ولا من حق خليفة من الخلفاء ، أو رئيس من الرؤساء ، أن يلغي أو يعطل شيئاً منها ، لأنها كليات الدين وقواعده وأسسه ، أو كما قال الشاطبي : (كلية أبدية ، وضعت عليها الدنيا ، وبها قامت مصالحها في الخلق ، حسبما بين ذلك الاستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضاً ، فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض وما عليها).


ونجد في مقابل ذلك القسم الآخر ، الذي يتمثل فيه المرونة ، وهو ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية ، وخصوصاً في مجال السياسة الشرعية .
يقول ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان):


الأحكام نوعان:
نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة ، كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ، ونحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه التغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه .
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً ، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة ـ وقد ضرب ابن القيم لذلك عدة أمثلة من سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم ثم قال : وهذا باب واسع اشتبه فيه  على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير بالتعزيرات التابعة للمصالح وجوداً وعدماً..)
الثبات والمرونة في هدي القرآن:
والذي يتدبر القرآن الكريم يجد في نصوصه المقدسة دلائل جمة ، على هذه الخصيصة البارزة ، من خصائص رسالة الإسلام وهي
:


الجمع بين الثبات والمرونة جمعاً متوازناً عادلاً.
وإذا كان بالمثال يتضح المقال ، فلا بأس أن نذكر هنا بعض الأمثلة التي توضح ما قلناه.
أ ـ يتمثل الثبات في مثل قوله تعالى في وصف مجتمع المؤمنين :[ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38} .وفي قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم : [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] {آل عمران:159} . فلا يجوز لمجتمع لمجتمع أن يلغي الشورى من حياته  السياسية والاجتماعية ، ولا يجوز لحاكم أن يعطل مبدأ الشورى ، وأن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون.
وتتمثل المرونة ، في عدم تحديد شكل معين للشورى ، يلتزم به الناس في كل زمان وكل مكان فيتضرر المجتمع بهذا التقييد الأبدي إذا تغيرت الظروف بتغير البيئات أو الأعصار أو الأحوال فيستطيع المؤمنون في كل عصر أن ينفذوا ما أمر الله به من الشورى بالصورة التي تناسب حالهم وأوضاعهم وتلائم موقعهم من التطور ، دون أي قيد يلزمهم بشكل جامد.


ب ـ يتمثل الثبات في قوله تعالى :[ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ] {النساء:58}  . وقوله تعالى :[وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ] {المائدة:49} . فأوجب التقيد بالعدل والالتزام بكل ما أنزل الله ، والحذر من اتباع الأهواء ، وكل هذا مما لا مجال للتساهل فيه ، فهو يمثل جانب الثبات قطعاً في مجال الحكم والقضاء . وتتمثل المرونة في عدم الالتزام بشكل معين للقضاء والتقاضي ، و هل يكون من درجة أو أكثر ؟ وهل يسير على أسلوب القاضي المفرد أم على أسلوب المحكمة الجماعية؟ وهل يكون هناك محكمة للجنايات وأخرى للمدنيات؟


كل هذا متروك لاجتهاد أولي الأمر ، و أهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور ، وليس للشارع قصد فيه إلا إقامة العدل ، ورفع الظلم ، وتحقيق المصلحة، ودرء المفسدة.
لقد اهتم الشارع بالنص على المبدأ والهدف ، ولكنه لم يعتن بالنص على الوسيلة والأسلوب وذلك ليدع الفرصة ، ويفسح الطريق للإنسان كي يختار لنفسه الأسلوب المناسب ، والصورة الملائمة لزمنه وبيئته ، ووضعه وحالته.


ج ـ يتمثل الثبات في قوله تعالى :[لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ] {آل عمران:28} .
وتتمثل المرونة في الاستثناء من هذا الحكم عند الضرورة ، إذ قالت الآية : [إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] {آل عمران:28} .ومثله : [إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] {النحل:106} .ونحوه :[لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ] {النساء:148} .
فهذه الاستثناءات وأمثالها في كتاب الله تعالى أعطت فسحة لمن تقهره الظروف الشخصية والاجتماعية فلا يقدر على الصمود والثبات على القاعدة الأصلية في السلوك ، ولكن الخطر كل الخطر ، أن تتحول الاستثناءات إلى قواعد ، وتصبح هي الأصل في التفكير أو السلوك ، كأن تتخذ التقية ـ التي هي رخصة ـ مبدءاً.
د ـ يتمثل الثبات في قوله تعالى :[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3} .
وتتمثل المرونة في قوله بعدها :[ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {المائدة:3} . فقرر بذلك مبدأ (رعاية الضرورات) ولكنه لم يطلق فيه العنان لمن أراد ، بل قيده بقوله : [غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ] {المائدة:3} . أي : غير مائل للحرام ، والتوسع فيه ، كقوله في الآيات الأخرى :[ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ] {البقرة:173} . أي : غير باغ على غيره ، ولا متعد قدر الضرورة ، وهذا مقيد لمبدأ الضرورة حتى لا يسترسل الناس في الحرام باسمها، ومن ذلك أخذ الفقهاء مبدأ : (ما ابيح للضرورة يقدر بقدرها) ويتمثل الثبات في قوله تعالى :[وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا] {الأعراف:56} . وقوله : [وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] {البقرة:60} . وهذا مبدأ عام.
وتتمثل المرونة في استثناء الظروف الحربية ومقتضيات التنكيل بالعدو ، وإجباره على التسليم بأقل الخسائر الممكنة وذلك في قوله تعالى :[مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ
] {الحشر:5} . وقد نزلت هذه الآية الكريمة في حصار النبي صلى الله عليه وسلم ليهود بني النضير وقطعه بعض نخيلهم ، فشنع اليهود بذلك وقالوا يا محمد قد كنت تنهي عن الفساد وتهيب على من يصنعه ، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ فكانت الآية رداً عليهم بأن ذلك بإذن من الله وليخزي الفاسقين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

أنواع الناس في التدين

ولكن إذا وجدت من يأخذ الدين جزءاً، ويعمل به جانباً، فمنهم من يتدين بعاطفة، ومنهم من يتدين بظاهر وشكل، ومنهم من يتدين تديناً قلبياً بزعمه، ومنهم من يستغل الدين للوصول إلى مآرب ومصالح خاصة.
فمن الناس التدين عندهم جانب معرفي، أنه يعرف، يقول: أنا أعرف الله، أنا أعرف الدين، أنا أعرف الأحكام فقط، أنا مقتنع بعقلي، وربما لا يمارس شيئاً، والمعرض عن دين الله بالكلية لا يقوم بعمل أبداً، هذا صاحب كفر الإعراض؛ لأن قضية الإطلاع على الإسلام، ومعرفة الإسلام يقوم بها كثير من الكفار والمستشرقين، يعرفون الإسلام، يطلعون على الإسلام، يقرءون عن الإسلام، وربما عرف بعضهم عن الدين أكثر مما يعرف بعض المسلمين، لكن الممارسة في العمل، آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة البقرة:25].
وبعض الذين يزعمون التدين يكون له نصيب منه في شيء من عمل القلب، ولكن لا يظهر بعد ذلك في سلوكه، ولا في حياته اليومية.

وقد جاء عن عمر t أنه قال على المنبر: "إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم.
قالوا : كيف يكون المنافق عليماً؟
قال: يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور، أو قال: بالمنكر"، أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة عن عمر t[5].
وربما كان لبعضهم علم بمسائل من الشريعة، بل وأشياء من السنة، لكن من جهة العمل في غاية التقصير، وربما سلك بعضهم مسلك الجدل في المسائل، والمناقشات الطويلة، لكن رصيده العملي ضعيف.
قال بعض السلف: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عليه باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد بعبد شراً أغلق عليه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل"[6].
ولذلك قال الحسن البصري -رحمه الله-: "العلم علمان: فعلم على اللسان، فذلك حجة الله على ابن آدم، وعلم في القلب، فذلك العلم النافع"[7].
فما هو العلم النافع؟ الذي يورث خشية الله، وتعظيم الله، ومحبة الله؛ لأن القلب متى خشع خشعت بقية الجوارح؛ لأنها تابعة له، والنبي ﷺ كان يقولاللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع[8]، فبعض الناس عندهم معلومات، معلومات عن الدين، لكن ماذا لديهم من الرصيد العملي؟

ونرى البعض ربما يزين مكتبته بكتب إسلامية، وعنده بعض المظاهر الدينية، وريما كان في يده سبحة، وربما كان في جداره آيات معلقة، لكن ما هو نصيبه من الدين؟ عنده في مرآة السيارة لواحات، لكن أشكال ظاهرة، ربما يعبر بها عاطفياً عن انتمائه للدين، لكن في حقيقة الأمر العمل ضعيف جداً، والعجب ممن يشتغل أحياناً برسم الحروف الظاهرة في المصحف، فهو في التجويد والمخارج ممتاز، ولكن في إقامة القرآن في حياته ضعيف.
وكان السلف ينهون عن إقامة اللفظ وترك العمل، كما قال الحسن رحمه الله: "أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً"، يعني: اقتصروا على ذلك، وتركوا العمل بمعانيه[9].

وعن مالك بن دينار قال: "تلقى الرجل وما يلحن حرفاً، وعمله كله لحن"[10].
وعن معاوية بن قرة قال: "بكاء العمل أحب إلي من بكاء العين"[11].
وقال مالك بن دينار أيضاً : "إني آمركم بأشياء لا يبلغها عملي، أنا قد أحثكم على أمور، وأنا لا أقوم بها، ولكن إذا نهيتكم عن شيء ثم خالفتكم إليه فأنا يومئذ كذاب"[12].
وكان منهج النبي ﷺ شاملاً للعلم: المعرفة، والتدين العملي، يوجد في واقع الشخص في حياة الصحابي سلوك، تعبد، خلق، أدب، ممارسة أعمال.

ظاهرة التدين الشكلي

قضية الظاهر قد تبدو في أشياء متعددة، ظواهر التدين قد تكون اللحية، وتقصير الثوب، وقد تكون إقامة الحروف والتجويد، وقد تكون أشياء مما يعلق، وبعضها قد يكون من الدين، وبعضها قد يكون طارئاً من البدع التي يظهر بها شيء من التدين، لكنها في الحقيقة لا دليل عليها، ولذلك يجب التوقف ملياً عند قضية الظاهر؛ لأن بعض الناس ربما يشعر أنه يريح ضميره في قضية التدين بإبراز بعض الظواهر، لكن الممارسة العملية عليها مؤاخذات كثيرة، لماذا كان السلف لا يتجاوزن العشر آيات من القرآن حتى يعرفوا معانيها؟ لأجل العمل، التمكن من العمل.
وهنالك من الناس من عنده بعض العبادات، فتراه يصلي، ويحج، ويعتمر، ويصوم، وهذه لديها حجاب جيد، مستمسكة به، وهذا عنده سمت إسلامي، ومظهر موافق للسنة، لكن تعال إلى الخوف من الله، محبة الله، رجاء الله، التوكل على الله، الحياء من الله، الصدق مع الله، الإنابة إلى الله، الخضوع، التذلل، التوبة، الذل للرب، الانكسار له، تجد أن هذه المعاني ضعيفة، ولذلك لا يعتبر هذا الشخص قد أراح ضميره وقام بما عليه بأداء هذه الأشياء، وإن كانت من الدين ومن السنة، لكنها ليست هي الإسلام، بني الإسلام على خمس[13]، فالأركان هذه الخمسة هذه أعمدة الدين، لكن فوقها بناء: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار، وصلة الرحم، والأمانة، وهكذا، بني الإسلام على خمس، فإذا كان عندك أعمدة بلا بناء فوقها فما الذي يظلك؟

لقد أصبحت ظاهرة التدين الشكلي، وممارسة بعض العبادات، وربما في رمضان يوجد شيء من الاجتهاد، وذهاب إلى مكة، لكن بقية السنة فيها تقصير كبير، جوهر الدين وترجمة هذا الإسلام إلى سلوك في الحياة يوجد فيه نقص، يجب تكميله، والمحافظة على الأركان في غاية الأهمية، والمعاملة للخلق لا بد أن تكمل المعاملة مع الخالق.
وتجد عند الناس في هذا إفراط وتفريط:
فمنهم من يعامل الخالق في بيته معاملة حسنة، لكن إذا خرج إلى الخلق عاملهم معاملة سيئة.
ومنهم من يتعامل مع الناس معاملة حسنة، لكنه في غاية السوء في معاملته مع ربه؛ لأنه مضيع، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ [سورة مريم:59]، فهو في العمل جيد، وفي الدراسة جيد، وفي المعاملة مع الناس جيد، لكن في المعاملة مع الله في صلاة الفجر والعصر ليس بجيد، ونحن نرى مواسم حماس لبعض الطاعات في الصيام، والتراويح، وعمرة رمضان، لكن النفس الطويل في ممارسة العبادة مما ينقص.

وبعض الناس عنده محافظة على الصف الأول، لكنه لا يخلص في عمله، ولا يكون أميناً في معاملته.
وبعضهم يحج ويتقاضى رشوة، يصوم فرضاً وتطوعاً وعنده معاملات ربوية، ربما يتدين بحضور بعض مجالس الذكر لكن هنالك تقصير كبير في قضية العقود مع الخلق، والعهود معهم.
وبعضهم ربما يحن إلى سبحة يحركها في يده، ويعالج بها شيئاً في نفسه من شعار يحس به بالانتماء لهذا الدين، لكن في الحقيقة كم مرة يسبح بها؟ وكم مرة يذكر بها؟
إن الحرص على هداية الناس بالإضافة إلى الالتزام الشخصي بالدين أمر مهم جداً؛ لأن هذا من طبيعة هذا الدين، ولكن عندما ندعو إليه يجب أن ندعو إليه بالشمولية التي جاء بها؛ لأن بعضهم قد يكتفي من الشخص إذا دعاه أن يلتزم بالشعائر الظاهرة، أو ببعض المظاهر من الدين، لكن في قلب الآخر المدعو لم يحدث تغيير جذري، وهذا المدعو قد يوافق الداعية طوعاً، أو كرهاً، محبة، عاطفة، ميلاً، تشبهاً بإعجاب، لكن التغيير الحقيقي هو أن يضاف إلى هذا التغيير الشكلي، الجيد، الممتاز، الحسن، الموافق للسنة، الذي يجب أن نحرص عليه أن يضاف إلى ذلك التغيير للقلب، إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الرعد:11].

الشعارات الصحيحة

قضية الشعارات أيها الإخوة قضية مهمة، "أعل هبل، أجيبوه: قولوا الله أعلى وأجل، لنا العزى ولا عزى لكم، أجيبوه: الله مولانا ولا مولى لكم[14]، يا منصور "أمت أمت"[15]، من شعارات المسلمين في الغزوات، كان لهم شعارات، حم لا ينصرون، هنالك في إعلان الشعارات والإسلام هو الحل، شعارات مهمة في إيقاظ حس الناس، مهمة في التنبيه على الوجود الإسلامي في الواقع، لكن يجب أن لا تستغل هذه الشعارات في أمور الدنيا لدغدغة عواطف الناس من الناحية الدينية، لجذبهم إلى منافع دنيوية،
وربما عمد بعض الناس إلى تسمية بضائع بأسماء دينية، بل ربما كان في بعضها ملاحظات، فيسمي عطراً بجنة الفردوس، وهل هذا العطر هو جنة الفردوس، وما الذي فيه من جنة الفردوس؟، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر[16]، ليست القضية الخطأ في الاسم، لكن ما هو المسمى، وعندما تسمي كذا الإيمان وكذا التقوى وكذا الاستقامة وكذا الهدى فانظر هل للمسمى من هذا الاسم نصيب؟، الاسم جميل، محلات الهدى، محلات التقوى، محلات الإيمان، لكن هل هي تلتزم بهذا الاسم الشرعي؟
وبعضهم يعلق مصحفاً أو سجادة صلاة على الجدار، أو هلالاً، أو نغمة جوال يقول: إسلامية، يوجد زخارف في بعض المساجد، يوجد آيات منقوشة في بعض الجدران، بعض هذه الأشياء أصلاً ليست من الشرع، بل الشرع حاربها، حارب تزويق المساجد، وحارب الزخرفة هذه التي هي إهدار للمال، لأن النفع الحقيقي بقراءة هذه الآيات، وامتثالها بالقلب، والعمل بها بالجوارح.

وعندما يعلن عن بعض الاستثمارات في مكة والمدينة بعبارات فيها دغدغة للعواطف الدينية؛ ليقبل الناس على هذا الاستثمار مع هذا الجوار، وعلى هذه العبادة مع هذه الاستفادة، يعني أنت تجد هنالك شعارات، لكن ما هي حقيقتها؟ وماذا يراد بها ومن ورائها؟
والأعمال الخيرية من الطبيعي أن تسمى بأسماء من هذا القبيل، لأنه لا منفعة شخصية فيها، وإنما هي لله، لكن أحياناً يكون من وراء بعض الأعمال قصد التجارة فقط، وتظهر بأشكال ومظاهر فيها حق، وفيها تقصير في اتباع الحق.

التدين بما يوافق هوى النفس

ثم إن بعض الطبائع عجيبة تلتزم بأمور من الدين، وتعرض عن أمور، فربما من جهة إعفاء اللحية لا يوجد مقاومة هوى، فهو مستعد أن يقوم بذلك، ولكن في قضايا تتعلق بالنظرة المحرمة غير مستعد للقيام بذلك، التورع عن الخمر عند بعض الناس قوي أنه ما يمكن يشرب خمر، لكن في قضية أكل أموال الناس لا يتورع عن ذلك، فالعجب يتورع عن شيء ولا يتورع عن آخر، الدين جاء بمنع هذا ومنع هذا، فلماذا فرقت بينهما؟ لأن هذا ليس مخالفاً لهواك، أنت ما عندك مانع أن تمتثل به، لكن الآخر مخالف لهواك، ولذلك لا تمتثلوا له، ولذلك لا تمتثلوا بالنهي الذي ورد فيه.

قال ابن القيم رحمه الله: "ولهذا تجد الرجل يتورع عن القطرة من الخمر، أو من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، ولكنه يطلق لسانه في الغيبة والنميمة في أعراض الخلق، كما يحكى أن رجلاً خلا بامرأة أجنبية، فلما أراد مواقعتها، قال: يا هذه غطي وجهك، فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام"[17].
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم عادة غالبة"[18].

فأين هؤلاء من قوله تعالىوَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:120]، فنهى الله عباده عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن، يعني في السر والعلانية، سواء متعلق بالقلب مثل سوء الظن، أو بالجوارح مثل الاعتداء والبغي.
وكذلك فإن الظاهر، والباطن، والجوهر، والمخبر متلازمان، وإذا صح هذا صح هذا، ولا بد أن القلب إذا كان صحيحاً ينعكس ذلك ويظهر على الجوارح، وقد يظهر بعض الناس مجاملة أو مسايرة لمن معه بمظهر إسلامي، ولكن إذا خلا بمحارم الله انتهكها.
ولما جاءت إلينا طلائع الغزو الإباحي في الموجات، والشاشات، والأجهزة، والجوالات، والرسائل الإلكترونية، والمخزنات، والمنقولات، والمنسوخات، والمرسلات، صار هنالك تخريب داخلي في قضية الاستسلام للشهوات، ولذلك لا بد من مقاومة داعي الهوى، لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله U هباء منثوراً، قال ثوبان يا رسول الله: صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قالأما إنهم إخوانكم،ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها[19].

يجب أن يكمل صلاح الظاهر بصلاح الباطن

ليس الحل هو شطب مظاهر التدين لعدم إيجاد حالة نفاق وازدواجية، فيجب أن نكون واضحين وصريحين أمام الناس، فنلغي مظاهر التدين حتى لا نقع في الازدواجيات، لا، لأنه في الحقيقة إذا كان عند شخص ما خراب داخلي فأضاف إليه خراب الخارج فقد ازداد إثماً إلى إثم، ومعصية إلى معصية، ولكن يجب أن يكمل صلاح الظاهر بصلاح الباطن، ووجود ظاهر حسن جميل يقود إلى مقاومة لتصحيح الداخل، ولذلك بقاء الظاهر الحسن، الجميل، الموافق للسنة يعين الإنسان على التغلب على داعي الهوى؛ لأن هنالك صراع سيعمل في النفس، أنا أمام الناس ملتزم وفي الحقيقة أفعل كذا وكذا، ما هو المطلوب؟ أن أتغلب على ضعف نفسي، حتى لا أكون منافقاً، ولا يكون عندي ازدواجية، ويكون ظاهري كباطني، يجب أن أعدل الباطن، وليس أن أعدل الظاهر؛ لأن تعديل الظاهر في هذه الحالة، أو إلغاء الظاهر هذا الذي يدل على استقامة، هو إثم على إثم، وسيئة على سيئة.
ويكون الإنسان عنده شيء من التمسك بالسنة فيلغيه لأجل عدم وقوع الازدواجية، ويقول: حتى ما أكون بلاء على الإسلام، وحتى الناس ما يأخذوا فكرة سيئة عن المتدينين، فلأظهر على حقيقتي، ولأنزل هذه المظاهر من مظاهر التدين، وأكشف نفسي أمام الناس، لا، هذه مجاهرة، لماذا المجاهرة؟ أنت كنت مستتراً بالمعصية، صرت الآن مجاهراً، انتقلت من سيئ إلى أسوأ، أنت ما حليت المشكلة، أنت زدت الطين سوءاً ونجاسة، ولذلك وجود الظاهر الشرعي وسيلة للتغلب على النفس في الصراع.

قال بعض أهل العلم: "ومنهم متصنع في الظاهر، ليث الشرى في الباطن" -سبع عادي- "يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات، ويري الناس بزيه أنه متصوف، متزهد، وما تزهد إلا القميص"[20].
القميص هو الزاهد، أما ما بداخل القميص فليس بزاهد، وهذا إنسان قصده بالتدين الظاهري أصلاً الخداع، وهذه مصيبة أعظم، لأن بعض الناس يقصد بالتدين الظاهري التقرب إلى الله، يقول: أنا اتبعت سنة محمد ﷺ أنا أؤجر على ذلك، أنا أؤجر على إطلاق لحيتي، وعلى أن لا أسبل الثوب، وعلى وعلى، أؤجر عليه، ويؤجر عليه إذا قصد وجه الله يؤجر عليه.
لكن بعض الناس ربما حتى التدين الظاهري يريد به نفاقاً وخداعاً، كالذي يأتي إلى ناس يخطب من عندهم ليزوجوه، فهو قد أطلق، وأعفى، وقصر، وجاء ليقول: أنا كذا، وسمتي كذا، ويأتي وقت الأذان، ثم يقول: لماذا لا نذهب للمسجد؟ هو أصلاً منافق لا يصلي أساساً، ولكن يريد منهم أن يزوجوه فقط، كمن يريد أن يتولى وظيفة دينية فهو يظهر التدين الظاهر نفاقاً لأجل الحصول على الوظيفة، وإلا هو في الحقيقة لا يريد ويشمئز منه، ومكره عليه.

لكن الذي يتمسك بالتدين الظاهر تقرباً إلى الله، وعنده صراع في نفسه ضد الشهوات، تغلبه ويغلبها، هذا إنسان يعني على الأقل لما التزم بهذا الظاهر، فإنه ينوي به قربة، ويؤجر عليه يؤجر عليه، ولذلك فإن الحل هو تقوية الداخل والباطن؛ ليكون خالصاً لله.
ومرة أخرى كتابة الشعار هذه قضية يفعلها حتى بعض الكفار غير المسلمين، يكتبون على عملتهم We Trust In God نحن نثق بالله، وهم يخالفون أوامر الله ظاهراً وباطناً، ولا يؤمنون بالله، ويشركون به، ويعتدون على من حرم الله العدوان عليه، ويأكلون أموال الناس ظلماً، ويخربون ديارهم، ويستحلون دمائهم، ويكتبون على عملتهم We Trust In God.

 

محاضرة 4


أنماط التدين: كما يمكن التمييز بين انماط متعددة فرعيه للتدين، تندرج تحت إطار التدين السلبي، ما لم يتم تقويمها تكليفيا بتقييدها بقيم وقواعد الدين ، وتكوينيا بتقييدها بالسنن الالهيه التي تضبط حركه الإنسان كما سبق ذكره، ومن هذه الأنماط


التدين المعرفي: وهو التدين المقصور على المعرفة بقيم وقواعد الدين.

 


التدين الوجداني: وهو التدين المقصور على العاطفة الدينية، القاصر عن معرفة قيم وقواعد الدين، والسلوك الملتزم بهما

.
التدين السلوكي: وهو التدين المقصور على السلوك، القاصر عن العاطفة الدينية و معرفة قيم وقواعد الدين، فيستغني بالأول عن الأخيرين


التدين التظاهري: هو التظاهر بالتدين، دون التزام حقيقي بالدين، لتحقيق أهداف نفعيه. ومن أشكاله الاتجار بالدين، وهو أفه تصيب التدين ككسب بشرى فتقضى عليه او تكاد ، ولا صله لها بالدين كوضع الهي ، بل مرفوضة منه، قال تعالىtristeولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا..) ( المائدة: 44 ).

وللاتجار بالدين أشكال متعددة منها الاستغلال السياسي للدين،والذي يتمثل في  جعل الغاية من النشاط السياسي هي الدولة – السلطة، والوسيلة هي الدين. و منها الاستغلال الاقتصادي للدين، والذي يتمثل في جعل الغاية من النشاط الاقتصادي هو الربح والوسيلة هي الدين، ومنها الكهنوتية او فئة رجال الدين، ومضمونها إسناد السلطة الدينية أو الروحية إلى فرد أو فئة، تنفرد بها دون الجماعة،وهى مرفوضة في الإسلام لأنه يسند هذه السلطة للجماعة(الشعب)، بموجب مفهوم الاستخلاف. لان السلطة الدينية (الروحية) (التي عبر عنها القران بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر)  مخوله فيه بموجب الاستخلاف العام للجماعة ﴿ كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾


التدين التفاعلي: وهنا يكون التدين رد  فعل  على أسلوب حياه سابق مناقض لقيم وقواعد الدين،ومن ثم التحول المفاجئ من النقيض(عدم التدين) إلى النقيض(التدين الشديد)، نتيجة لحدث او موقف معين ، ونتيجة لذلك فانه يتسم بالغلو والتشدد الذى يلزم منه تجاوز ضوابط الدين ذاته ،ما لم ينتقل من حاله رد فعل إلى حاله الفعل المحدود بقيم وقواعد الدين

.
التدين الدفاعي: وهنا يكون التدين دفاعا ضد انفعالات سالبه تسيطر علي الشخص مثل الخوف أو القلق أو الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير أو القهر والإحباط... ومحاوله للتخلص منها،وهناك علاقة طرديه بين درجه سيطرة هذه الانفعالات على الشخص ودرجه التدين فكلما زادت درجه هذه الانفعالات كلما زادت درجه تدين الشخص ،  وهذا النمط من التدين يدل على أن التدين دفاع نفسي صحي ، ولكن بشرط أن يكون في الوقت المناسب، وبطريقة منهجية مناسبة.


التدين كآلية للمعالجة الذهنية: قد يلجا الشخص إلى التدين لتخفيف حدة التدهور المرضى  الذهني، وفى حاله فوات الوقت على معالجه هذا التدهور، قد تظهر أعراض المرض العقلي المعين مصطبغة ببعض المفاهيم شبه الدينية الخاطئة، فيعتقد المريض أنه ولي أو نبي أو المهدي المنتظر...و على الرغم من فشل هذه المحاولة ، ألا أنها دليل على دور التدين في المحافظة على الصحة العقلية في حاله التبكير في معالجه الأمراض العقلية.


التدين المتطرف(الغلو): وهو المبالغة والتشدد في التدين التي يلزم منها تجاوز ضوابط الدين ذاته ، يقول الحافظ ابن حجر (الغلو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد)، فالتطرف إذا متعلق بالتدين ككسب بشرى ، ولا يتعلق بالدين كوضع الهي، لذا نفضل استخدام مصطلح تطرف تديني وليس تطرف ديني، لان الأخير يوحى بنسبه التطرف إلى الدين وقد وردت العديد من الادلة التي تفيد النهى عن التطرف في التدين او الغلو فى الدين : قال تعالى:﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ﴾ (المائدة: 66).و قال (صلى الله عليه وسلم) (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فانه أهلك من قبلكم الغلو في الدين) (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه).وقد تناول العلماء  أقسام التطرف في التدين المتعددة التي يمكن إجمالها في الاتى:

الغلو الاعتقادى: هو المبالغة  في العقائد التي يلزم منها تجاوز ضوابط الدين ، ومن أمثلته غلو الخوارج في التكفير، وغلو الشيعة في حب أل البيت….

الغلو العملي السلوكي: هو التشدد في العمل (السلوك) والذي يلزم من تجاوز ضوابط الدين ، وينقسم إلى قسمين:

الاول:الغلو في سلوك الفرد ذاته: وهو تشديد المسلم على نفسه في عمل طاعة من غير ورود الشرع بذلك .

الثاني:الغلو في الموقف من سلوك الآخرين:  وهو تشدد المسلم في حكمه على عمل (سلوك)غيره من المسلمين ، ويتدرج من التشدد القولى إلى العملي:ومن مظاهره: الغلظة في الأسلوب، والفظاظة في التعامل بخلاف قوله تعالى  فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك﴾.واستخدام القوه والعنف لتحقيق الغايات بخلاف قوله تعالى﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم﴾.وإلزام الناس بالعزائم والتشديد بخلاف قوله(ص) َقَال: ” اكَلُفوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيُقون” البخاري،الرقاق،6100.

 و  سوء الظن بالناس بخلاف قوله تعالى﴿ يا أيها الذين آمنوا أجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم﴾. و تكفير المسلمين بخلاف قوله تعالى ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبغون عرض الحياة الدنيا ….﴾.واباحه دمائهم بخلاف قوله تعالى ﴿  من يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾…

نقد التدين السلبي عند الشيخ محمد الغزالي:وقد أشار الشيخ محمد الغزالي رحمه الله  إلى احد انماط التدين السلبي اسماه التدين المغشوش في مقال له بنفس الاسم نشر عام  1982حيث يقول فيه ( للتدين المنحرف أسباب نفسية وأخرى عملية ، تظهر في أقوال المرء وأفعاله ،وتلخص فيما يصدره من أحكام على الأشخاص والأشياء ،وتتفاوت هذه الأسباب قوة وضعفا وقلة وكثرة ،ولكنها على أي حال ذات أثر عميق في تحديد المواقف والاتجاهات ،والمفروض في العبادات التي شرعها الله للناس أن تزكي السرائر وتقيها العلل الباطنة والظاهرة وتعصم السلوك الإنساني من العوج والإسفاف والجور والاعتساف ،وكان هذا يتم لو أن العابدين تجاوزوا صور الطاعات إلى حقائقها ! وسجدت ضمائرهم وبصائرهم لله عندما تسجد جوارحهم ، وتتحرك أنفس ما في كيانهم – وهو القلب واللب – عندما تتحرك ألسنتهم .إذا ما وقفت العبادات عند القشور الظاهرة والسطوح المزورة فإنها لا ترفع خسيسة ولا تشفي سقاما( .. .

انماط التدين السلبي عند المفكر الاسلامى المغربي أحمد الريسوني:كما تحدث المفكر الاسلامى المغربي الدكتور أحمد الريسوني عن ثلاثة انماط للتدين السلبي، النمط الاول هو التدين الشكلي، الذى عبر عنه بمصطلح التدين المغشوش،ويعرفه بأنه(الاعتناء بالظاهر مع إهمال الباطن ، بمعنى أن المتدين يعتني في تدينه بتحسين الأعمال والصفات الظاهرة والمرئية والملموسة، ويحرص على الالتزام بأحكام الشرع وآدابه فيها، بينما لا يبالي بعكسها مما لا يراه الناس ولا يظهر للعيان)
والنمط الثاني هو ما اسماه  التدين المعكوس،و يعرفه بأنه( ذلك التدين الذي يَقْلب أصحابُه مراتبَ الشرع وقيمه ومقاصده وأولوياته، فيتشددون ويبالغون فيما خففه الشرع، أو لم يطلبه أصلا، ويهملون ويضيعون ما قدمه وعظمه. فتجد من الحرص والتزاحم على صلاة التراويح، وعلى تقبيل الحجر الأسود، ما لا تجده في فرائض الدين وأركانه.وتجد الإنفاق والإغداق في الولائم والضيافات والعمرة، مع تضييع فرائض الزكاة وحقوق الشركاء والأقارب والفقراء والمستخدمين …”.
والنمط الثالث هو التدين الذى يقوم على الإلزام الموضوعي لا الالتزام الذاتي، واسماه التدين  المحروس، ويعرفه بأنه (التدين الذي لا يلتزم به أصحابه بواجباتهم، إلا بالمراقبة والمطالبة والملاحقة، ولو تُركوا لتَركوا. فهم ممن يصدق فيهم قول الله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) آل عمران :75.

محاضرة 3

أبعاد التدين

التمييز بين الدين والتدين: بداية يجب التمييز بين الدين كوضع الهي، والتدين ككسب بشرى ، والمقصود بالدين أصوله الثابتة، التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة ،أما التدين فهو معرفه والتزام بشرى بهذه الأصول، بالاضافه إلى الفروع الظنية الورود والدلالة، يقول الدكتور عبد المجيد النجار (إن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين ؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم ، فهو كسب إنساني.

وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما).
فطريه التدين: والتدين في المفهوم الاسلامى هو فطره في الإنسان يقول تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله) (الروم : 30)،ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم  (كل مولود يولد على الفطرة)،والمقصود بكونه فطره  انه إمكانية، لابد لها من ضوابط لتنتقل من الامكانيه إلى التحقق بدون انحراف ، يقول ابن تيمية: (ومعلوم أن كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه يوم ولدته أمه يكون عارفاً بالله موحداً بحيث يعقل فان ذلك الله يقول (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) ( ابن تيمية مجموع الفتاوى، ج4، ص 447


التدين بين الإيجاب والسلب: وإذا كان الدين كوضع الهي يتصف بالوحدة (على مستوى أصوله)، فان التدين ككسب بشرى يتصف بالتعدد ، حيث يمكن التمييز بين نمطين أساسيين للتدين احدهما ايجابي والأخر سلبي،والأخير(اى التدين السلبي) ليس مرجعه الإسلام كدين ، بل هو محصله عوامل نفسيه واجتماعيه وتربويه وسياسيه واقتصاديه وثقافيه...متفاعلة، مرتبطة بالشروط الذاتية (كشيوع التقليد وظهور البدع..) والموضوعية ( كالاستبداد و الاستعمار...) لتخلف النمو الحضاري للمجتمعات المسلمة، هذا التمييز يشمل الأبعاد المتعددة للتدين.

البعد الديني: فالتدين الايجابي هو التدين المحدود تكليفيا  بالقيم والقواعد التي جاء بها الوحي، والتي تحدد التدين ككسب انسانى. وتكليفيا بالسنن الإلهية الكلية والنوعية التي تضبط حركه الإنسان. فعلاقة الدين بالتدين الايجابي هي علاقة تحديد وتكامل، اى ان الدين يحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه


أما التدين السلبي فهو التدين المطلق ، اى القائم بذاته والمستقل تكليفيا  عن القيم والقواعد التي جاء بها الوحي، والتي تحدد التدين ككسب انسانى، وتكوينيا عن السنن الإلهية الكلية والنوعية التي تضبط حركه الإنسان ، فعلاقة الدين بالتدين السلبي هي علاقة إلغاء و تناقض.


البعدين الروحي والمادي: ويقوم التدين الايجابي على أساس ان البعد الروحي للوجود الانسانى ، ومضمونه التطور أو الترقي الروحي للإنسان ، لا يلغى البعد المادي له ، بل يحدده كما يحدد الكل الجزء فيكمله وبغنية. فهو يتحقق عندما تأخذ حركه الإنسان  شكل فعل غائي ( ذو ثلاث خطوات :المشكلة، الحل، العمل)  محدود (تكوينيا وتكليفيا) بالفعل المطلق (الربوبية) والغاية المطلقة  (الإلوهية) ،أي كدح إلى الله بالتعبير القرآني: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه(


أما التدين السلبي فهو يقوم على تأكيد البعد الروحي للوجود الانسانى، لكنه يطرف في التأكيد لدرجه إلغاء البعد المادي للإنسان ،فيجعل العلاقة بينهما علاقة تناقض وإلغاء.


البعدين الذاتي والموضوعي: كما يقوم التدين الايجابي على أساس ان البعد الذاتي للوجود الانسانى، اى النيات والمقاصد، ، لا يلغى البعد الموضوعي له ،اى السلوك، ،فالعلاقة بينهما هي علاقة تأثير متبادل اتساقا مع جدل المعرفة من الموضوعي (المشكلة التي يطرحها الواقع) إلى الذاتي (الحل الذهني) إلى موضوعي مره أخرى من اجل تغييره (تنفيذ الحل في الواقع بالعمل(

أما التدين السلبي فيقوم إما على التطرف في التأكيد على البعد الذاتي للوجود الانسانى(النية)،لدرجه إلغاء بعده الموضوعي(السلوك)،  ومثال له التفسير الخاطئ للحديث (إنما الأعمال بالنيات)باعتباره يفيد ان النية وحدها تكفى كمعيار للتقييم دون العمل،يقول ابن تيميه) لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقد ومَثَلُ ذلك مَثَلُ العمل الظاهر والباطن أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح ومثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات } أي لا عمل إلا بعقد وقصد، لأن { إنما } تحقيق للشيء ونفي لما سواه ، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات ، فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان لا يصح الكلام إلا بهما لأن الشفتين تجمع الحروف واللسان يظهر الكلام وفى سقوط أحدهما بطلان الكلام وكذلك فى سقوط العمل ذهاب الإيمان.

 (مجموع الفتاوى 7 / 334)

او يقوم على التطرف في  التأكيد على البعد الموضوعي للوجود الانسانى(السلوك)، لدرجه إلغاء بعده  الذاتي (النية) ومثاله التدين الشكلي او المظهري.



البعد المنهجي:كما يقوم التدين الايجابي على الوسطية والاعتدال والقوامة في التدين، ورفض الوقوف إلي أحد النقيضين: الغلو في الدين او الجفاء عنه يقول تعالى:"وكذلك جعلناكم أمة وسطاً". "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانوا بين ذلك قواماً"..


أما التدين السلبي فيقوم إما على الغلو في الدين او الجفاء عنه، و كلاهما يلتقيان في المحصلة(عدم الالتزام بضوابط الدين سواء بتجاوزها او التقصير في الالتزام بها )، يقول ابن القيم ( ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين)

( مدارج السالكين: 2/496(

البعدين الايمانى والعملي: كما يقوم التدين الايجابي على أساس ان العلاقة بين  الإيمان والعمل، هي علاقة وحدة ( لا خلط كما عند الخوارج)، وتمييز (لا فصل كما عند المرجئة). يقول ابن القيم الفوائد ص 117 (الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء وعصم به المال والذرية. ولا يجزىء باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل علي فساد الباطن وخلوه من الإيمان ونقصه دليل نقصه.(


أما التدين السلبي فيقوم إما على التطرف في التوحيد بين الإيمان والعمل( كما عند الخوارج)،او التطرف في الفصل بين الإيمان والعمل(كما عند المرجئة)، يقول ابن تيميه ( الثالث : ظنهم- اى المرجئة - أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ; والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ; ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا : رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ...) (الفتاوى ، ج 7، ص 204(.


الأبعاد السلوكية والوجدانية والمعرفية:ويقوم التدين الايجابي على أساس شمول التدين لأبعاد الإنسان المتعددة (السلوكية والمعرفية والوجدانية)، بينما التدين السلبي يكون مقصورا على احد هذه الأبعاد و قاصر عن باقي الأبعاد ، فيستغني به عنها

محاضرة: التدين المغشوش

ثمة تعبير للشيخ محمد الغزالي استعمله في عدة مواقع من كتبه وهو (التديُّن المغشوش)، وعندما استعمل هذا المصطلح فإنه كان يشير إلى ذلك النوع من الممارسات الدينية التي لا تنعكس على سلوك المرء أخلاقا فيقول: “عندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشى. المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شيء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبّه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملا ما في المجتمع فسوف يكون نموذجا للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا”. [من كتاب علل وأدوية] وفي مكان آخر تناول أثر هذا التدين المغشوش قائلا: وهذا “التدين المغشوش يقدم الهزيمة ويصنع التخلف، ويحس الناس معه بالحرج” [من كتاب الغزو الثقافي يمتدّ في فراغنا].

كيف نميّز التديّن المغشوش؟

يمكن القول إن التدين المغشوش هو ذلك النوع من التدين والسلوكيات الدينية الطقوسية والتي تمارس في أوقات معينة مع إغفال الواجبات الأخرى، وعليه فإن التدين لا يقوم بوظيفته في الفرد والمجتمع بل يؤدي إلى عكس ذلك، إذ إن صاحب التدين المغشوش ينظر إلى الدين إما على أنه طقوس شكلية تؤدى دون غايات، أو أنه ينظر إليه من منظور الربح فيلجأ إلى القيام بالأعمال التي يظن أنها –حسب رأيه- تكسبه حسنات فيكثر منها مع إغفاله لواجبات أخرى.

التديّن المغشوش بتصوري يلعب دورا مهما في إبعاد قسم من الناس عن الدين، ذلك أنه يقدم لهم أنموذجا غير سليم وغير صحي عن الدين، فإن لم يؤدِّ المتدين ما ينتظر منه من سلوك أخلاقي، فإن اللوم سينصب على الدين عبر ادعاء أن الدين لم يوفر له أرضية للتصرفات الأخلاقية، غير أننا ندرك من خلال قراءة آيات القرآن أن عمل الخير واجب المؤمن الأول، وهنا نتساءل ما البديل؟

كلنا يحفظ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [أخرجه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد]. وهذا الحديث يحمل بعدا مهما في بيان غاية الدين وهي إتمام بناء الأخلاق. وإن صح لنا استخدام هذا التعبير التدين الأخلاقي فإنه يمكن القول بأن التدين الأخلاقي هو السلوك الديني القائم على ملاحظة الواجب الأخلاقي.

التدين الأخلاقي ليس طريقة جديدة في فهم الدين، بل هو تعبير عن حالة الإحسان التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل المشهور، وهذه الحالة تقتضي وعيا تاما بالله، إضافة إلى وعي بأهمية واجب فعل الخير مع الله عبر استظهار عبوديتنا له، وفعل الخير مع الإنسان، وأخيرا فعل الخير مع العالم من حولنا من حيوانات وطبيعة جعلها الله أمانة في يدنا.

مظاهر.. ومخاطر :
عند التأمل في أصناف ومظاهر التدين الفاسد سنجد أننا أمام تشوهات عديدة، لا يتسع المجال للاستفاضة فيها، بين تدينٍ شكليٍ وتدينٍ منافقٍ، وتدينٍ معتلٍّ (باطن الإثم) وتدينٍ مرَضي يحمل صاحبه نفسا حاقدة وأخلاقا شرسة، وبدل الدخول في خصائص تلك الأنماط الفردية يحسن إرجاعها لجذرها الكلي، بحيث نركز على البيئة التي أنتجت تلك النماذج، والثقافة الاجتماعية التي شجعتها، وتتداخل جذور هذا المشكل بين الاجتماعي والفكري/ العلمي:
فعلى المستوى الاجتماعي لم نحظَ بشكل كاف بتجديد ديني ينفض الغبار عن جوهر الدين ( أو على الأصح لم يتمكن هذا التجديد من الثقافة الاجتماعية)، بحيث أن المعايير الاجتماعية -ـ التي تسربت إلى الثقافة الدينية لظروف تاريخية أو لخصائص نفسية أو اجتماعية للمجتمعات العربية والمسلمة – هي المهيمنة، ومن ثم صبغت التدين بصبغتها، وطوعت المخيال الديني الاجتماعي لصالحها، حتى غدت ثقافة دينية مستقرة؛ وهذا أمر مشاهد في انصباغ كل مجتمع بأولويات وقيم دينية بعينها، ففي أغلب مجتمعاتنا تتعايش قيم المحافظة على الصلاة والصوم والحج، جنبا إلى جنب مع التطبيع النفسي والاجتماعي مع منكرات الكذب والخديعة والغش وغياب الإتقان وغربة الإحسان.. ثم ينطبع كل مجتمع على حدة بنسخة تدينية بها تراتبية قيمية ليست لدى المجتمع الآخر، فذاك مجتمع يعظم الجانب الاجتماعي الخُلقي ويستهين بمقاصد الأخوة والعدل والأمانة العامة، وذاك مجتمع يستهين بالمنكرات الخُلقية لطبيعته المنفتحة، فلشعوب الصحراء تدينهم ولشعوب البحر الأبيض المتوسط تدينهم، ولشعوب الجزيرة العربية تدينهم ولحواضر الإسلام تدينها..ورغم مراعاة الشرع للأعراف، فإن ذلك لا يعني اتخاذها أساسا ولا مرجعا، فهي مكملة ونتاج تفاعل القيم الدينية مع الواقع الاجتماعي، تفاعلا قد ينتج صيغا مختلفة للتدين، ولكنه لا يصادم مقاصد الدين ولا يستبدل موازينه، إنما هو دلالة على حيوية الإسلام وعبوره للمكان والزمان..

إن حقيقة التشوهات المذكورة سابقا هي غلبة السلطان الاجتماعي على السلطان الديني، ولذلك ينتهك الناس وصايا أخلاقية جليلة ويدوسون مقاصد شرعية عظيمة، في حين يعظمون جرم بعض الصغائر ويجعلونها في مرتبة الكبائر، وهي أهون عند الله مما انتهكوه وأعظم في ميزان الشرع مما استحلوه، وبذلك ينشأ تدين اجتماعي مشوه.
أما على المستوى الفكري فقد تسرب إلى وعي الناس نمط سهل للتدين، بدأ قديما في عصور الإنحطاط حين كان القصاص يجلسون فينسجون القصص الدينية الزائفة، ويضعون الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كرر ذِكرا طويلا غير مأثور في سنة صحيحة، فيه إغراب وسجع وتكلف أعطوه صك الجنان، وغفروا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقد أعاد وعاظ معاصرون وخصوصا تيار الدعاة الجدد ووعاظ “تجزئة الدين” من خلال أشرطتهم وبرامجهم التلفزيونية إنتاج هذا الخطاب، فبنوا مفهوما للتدين في أذهان الناس، يباين المفهوم الصحيح للتدين، فهو إما “تدين لذيذ” لا يعرف أصحابه للجهاد مكانة ولا للإصلاح منزلة ولا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبير مزية .
أو هو تدين شكلي ملفق من مجموعة من القضايا الخلافية والطقوس والرسوم، تخدر حس الناس وتشوه وعيهم، فتقصير الثوب وإطلاق اللحية و   ... كليات في مقابل مقارعة الظلمة ورفض البغي وتخليص الناس من أكل الربا ، ومن ثم تسرب فهم شكلي للدين ومفهوم مرتعش للتدين.
يصف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مصيبة هؤلاء العلمية والخُلقية : ” (إنهم) يسمعون أن شُعَب الإيمان بضع وسبعون شعبة ، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب ، ولا فريضة من نافلة ، والتطبيق الذى يعرفون هو وحده الذى يُقرون. إفراط . . وتفريط، والخلاف الفقهي لا يوهى بين المؤمنين أُخوّة ، ولا يُحدث وقيعة! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة، ومن الخلاف الفرعي أزمة. والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة، وهؤلاء تكمن وراء خلافاتهم علل تستحق الكشف!” (كتاب : مشكلات في طريق الحياة الإسلامية).
إن جامع هذين الانحرافين الكبيرين (الاجتماعي والفكري المفاهيمي) هو مناقضة مقاصد الإسلام والتدين الصحيح، وهي انحرافات توشك أن تقضي على الفاعلية الحضارية للأمة، وتشوه ثقافتها الدافعة للخير، وشروط عمارتها المبنية على الصلاح والسلام النفسي والمجتمعي.

الأخلاق والدين .. توأمان لا ينفصلان ووجهان لحقيقة واحدة

ثمة اعتقادات وتصرفات خاطئة تقوم على النظر إلى الدين وفق منطق السوق، فتسعى وراء ما تعتقد أنه سيكسبها حسنات أو ثواب أكثر، وهذا يؤدي إلى أن يغيب عن منطقها ونظرها بعض الواجبات المهمة، وهذا عائد إلى عدم إدراك الشخص لهرم الواجبات وتراتبية الأعمال وعلاقاتها. وهنا يأتي الحديث عن الأخلاق في الدين، حيث تمثل هذه الناحية نقطة مهمة. فالأخلاق تعبر عن الشعور بالواجب في داخل كل واحد منا، والشعور بالواجب يقتضي أن يتجاوز الإنسان نفسه، بتعبير آخر فإن جوهر الأخلاق الدينية ضد الأنانية، لأن الأنانية تقتضي التمركز حول الذات، فلا حديث عن كرم أو محبة أو شفقة أو إيثار، أما جوهر الأخلاق الإسلامية القائم على التجاوز يعني أن يتجاوز الإنسان نفسه لينظر بعين الواجب إلى ما حوله، لذلك فإن فعل الخير غير محدود، فكلما فعلت خيرًا فثمة خير آخر يمكن فعله، وهذا الأمر مرتبط بعدة أمور أهمها معرفة الله ومحبته فكلما عظم هذا الأمر في قلب الإنسان كبرت عنده دائرة الخير، وفي ضوء هذا الأمر نفهم مسارعة أبي بكر رضي الله عنه للتصدق بماله كله أثناء الحاجة، إلا أن التديُّن قد ينفصل عن الأخلاق.

فقد يكون التزام صورة من صور التدين في بعض الأوقات منافياً للواجب الأخلاقي كما لو قام شخص بكثير من النوافل في وقت عمله في حين أن واجب الوقت لديه قد يكون أولى من تلك النوافل فقد يكون ثمةَ رجل غنيٌّ يكثر من بناء المساجد وهو يستغلُّ عُماله في مصنعه بأبخس الأجور بل إنهم رغم الأجر في وضع يحتاجون فيه لأموال من الزكاة.

 في الظاهر هذه الأعمال تبدو محمودة، لكن ولأن ظرف زمانها يقتضي فعل غيرها فقد انتفت عنها -برأيي- صفة الكمال الأخلاقيّ، فإذا عرفت الأخلاق بأنها حسن التعامل، فإن حسن التعامل يحتاج إلى تقدير للزمان والمكان والأشخاص، وإن لم يكن ثمة تقدير حكيم لهذه الأشياء فقد انتفت صفة كمال الأخلاق عنها.

ولعلنا نجد في بعض الأحاديث النبوية ما يدل على ذلك أو يلمح إليه فعن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (دخلت على خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية وكانت عند عثمان بن مظعون قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي يا عائشة، ما أبذ هيئة خويلة؟ قالت: فقلت: يا رسول الله، امرأة لا زوج لها يصوم النهار، ويقوم الليل فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن مظعون فجاءه، فقال:” يا عثمان، أرغبت عن سنتي؟” قال: فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: “فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم”) [أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح والنسائي في السنن].

إن تصرف الصحابي ورغبته في العبادة الكثيرة كان في غير موضعه لأنه أدى إلى تقصير أخلاقي في جانب مهم، ونفهم من تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الصحابي ليس في محله وأنه مُنافٍ لسنته عليه الصلاة والسلام، وأن سنته هي حسن التعامل وأن لكل مقام مقال ولكل ظرف زماني ومكاني خلق وفعل يجب القيام به وفي بعض الأحاديث رأينا الرسول يخفف من صلاته -التي نوى أن يطيل بها- لأنه يسمع بكاء الطفل، وفي هذا إشارة إلى أن الواجب الأخلاقي يفرض اعتبارات لا بد من اعتبارها والسير على أسسها.

أثر العبادات في أخلاق الإنسان

أهم وصف للإنسان المؤمن هو العبودية، فهو عبدٌ لله، لأنه يقوم بالعبادات على اختلافها وتنوعها، إذ إن العبادات طريقٌ يقرب الإنسان من الله تعالى، ولكن هذه الوظيفة المهمة للعبادات مقترنة بتحقيق أهدافها، ذلك أنه لكل عبادة هدف أخلاقي وهذا الهدف يتم الوصول إليه على مراحل عبر وعي الإنسان به وعبر محاسبته وبذله الجهد.

ثمة آيات وأحاديث تناقش الوظيفة الأخلاقية للعبادات، وفي نفس الوقت تحذر من عدم الاهتمام بهذه الأهداف الأخلاقية، ففي عبادة الصلاة المفروضة التي تتكرّر خمس مرات في اليوم والليلة يقول الله تعالى عن أثرها الأخلاقي: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وفي الصيام يقول الله تعالى عنه  {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:  183] فالتقوى درجة أخلاقية وروحيّة يُنتَظَر من الصائم الوصول إليها، وفي أحاديث أخرى يشير النبي عليه الصلاة والسلام إلى أهمية أن ينتبه الإنسان لغايات الكمال الأخلاقي المقصود من العبادات فقال -على سبيل المثال-: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع صيامه وشرابه). [أخرجه البخاري في الصحيح] وقال: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) [أخرجه النسائي وابن ماجه في سننهما]، وهذا الحديث الأخير مهم في بيان أن العبادة لا تؤدي مبتغاها الإيماني ما لم تحقق هدفها في التكامل الأخلاقي.

هذه الأحاديث تخبرنا أن للعبادات روحًا تشكِّل سلوك الإنسان الفاضل، وأنه كما يجب الاهتمام بأداء الجانب الظاهريّ المفروض من العبادة فإنه لا بد من العناية بالوصول إلى الأثر الروحي لها والمتمثل في أهداف التكامل الأخلاقي.

على سبيل الختم

الأخلاق الفاضلة هي ثمرة الدين وأحد أهم غاياته، وكما أن الشجر قد يثمر وقد لا يثمر، فإن التدين قد يثمر وقد لا يثمر، ومن أجل إثمار شجرنا لا بد من بذل الجهد، فالله تعالى يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا} [العنكبوت: 69]

إن تديننا وسلوكنا يعكس فهمنا للدين، غير أن ذلك في الوقت نفسه يشرح للناس الكثير عن الدين الذي نؤمن به، لذلك فإن التدين المغشوش مسؤول عن كثير من المشاكل التي نعيشها سواءً في حياتنا الفردية أو في حياتنا الاجتماعية.

 

 

المحاضرة الأولى

مفهوم فقه التدين

لعل اصطلاح الدين أو التدين قد بلغ من الوضوح والظهور المفهومي في التداول الفكري العام والخاص، ما يجعل الاستفهام عن دلالته من قبيل بيان الواضحات، الذي لا يخلو من التكلف، إذ لا يتحصل به علم ولا يندرئ به جهل، ومع ذلك فإن للمصطلح أبعادا تداولية واسعة تستحث النظر، وتحيي داعية الاستشكال من جديد، مما يجعل مسألة الوضوح والبداهة من الأمور النسبية أو الإضافية، وأن أمر التدين بقدر ما يستدعي لدى الناظر استحضار معنى الاجتهاد في الاتصاف بحقائق الدين و النزول في مراتبه، إذ هو مسماه ونعته، فإنه يقتضي كذلك اجتهادا في فهم حقيقته، وتعقب أحواله، وتبين أطواره ومراتبه، وإذ ذاك تنكشف للناظر حقائق عن التدين، بها يهتدي إلى استخلاص المبادئ والمعايير والمسالك المفيدة في تقويم التدين أصلا، ومقصدا، ووسيلة.

وإذا كان من المقرر مفهوميا أن الدين إجمالا هو عبارة عن «وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه، إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال»[1]، فإن التدين إذا أطلق في سياق النظر والاستشكال، يراد به صفة كل اجتهاد يكون مسعاه تحصيل الاتصاف بالدين، باعتباره حقائق «أحكامية» و«حِكَمِية» منزلة من لدن الحكيم الخبير، بوساطة أنبيائه ورسله.

ومن ثم فمبنى الدين وأساسه على بيان وتقرير تبعية المخلوق للخالق اعتقادا واشتغالا، إذ التبعية الاعتقادية تقتضي من المكلف المخاطب بالدين التصديقَ بما دل عليه من قضايا وأخبار، مثلما تستوجب التبعية الاشتغالية منه العملَ بما تقرره مضامينه من قيم وأحكام.

إذا كان الدين على الوصف المشار إليه سابقا، فإن الإنسان في مقام التدين إنما خوطب بالدين؛ «لينفعل به في حياته انفعالا إراديا، فيصدق بما جاء به من بيان في شرح حقيقة الوجود، ومن ذلك معتقده، ويجري سلوكه على حسب ما جاءت به تعاليمه العملية، ومن ذلك يكون شرعه في واقع حياته، وهذا الانفعال بالدين، تصديقا عقليا وسلوكا عمليا، هو التدين، على معنى أنه تحمل الدين واتخاذه شرعة ومنهاجا، فالدين إذن هو التعاليم الإلهية التي خوطب بها الإنسان على وجه التكليف، والتدين هو الكسب الإنساني في الاستجابة لتلك التعاليم، وتكييف الحياة بحسبها في التصور والسلوك، وبحسب هذا التعريف فإن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين، إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني، وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما»[2].

وإن المتتبع لمعاني «الدين» في التداول الشرعي سرعان ما يتبين الحضور القوي لمعنيي الاعتقاد والاشتغال المقوِّمين للحقيقة الدينية، وأن الإنسان في مساره التديني ينحصر مسعاه في التحقق بالمقتضيات الاعتقادية والاشتغالية للدين، من خلال تحصيل الشعور الواعي بتبعيته للخالق عز وجل، وهو وعي مخصوص بتبعية مخصوصة تتحدد هويتها بمضامين الاعتقاد ومعايير الاشتغال المتضمنة في أحكام الوحي وحِكَمه.

وعليه، فالتدين هو الحقيقة الدينية وقد تشخصت في أرض السلوك والاكتساب، بعد أن كانت معطى مجردا متعاليا، بحيث يمكن القول إن التدين هو الإمكان التنزيلي لحقائق الدين، علما بأن الحقيقة الدينية تحتمل إمكانات تنزيلية واسعة، إذ تعد التجربة النبوية هي الممارسة النموذجية والتنزيل الأمثل لحقائق الدين، أما الإمكانات التنزيلية الأخرى فتندرج تحت تجربة التنزيل النبوي مشكلة سلما ترتيبيا بحسب قربها من الممارسة النموذجية أو بعدها عنها، آخذة في التنازل إلى الحد الذي إذا جاوزته خرجت عن مسمى التدين.

وفي هذا السياق لنا أن نستحضر الحديث الشهير في التداول الشرعي، والمتعلق بمراتب الدين، وهو حديث جبريل عليه السلام[3]، فمنه تنبعث للناظر بعض الاقتضاءات المفهومية لاصطلاح الدين ومن خلاله التدين:

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك». قال: فأخبرني عن الساعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان». قال: ثم انطلق. فلبثت مليا، ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل؟»، قلت الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم»[4].

إن القراءة المتدبرة لمعاني هذا النص الحديثي الشريف كفيلة بإرشاد الدارس إلى تبين معالم الحقيقة الدينية بشكل عام، مثلما تفيد في استكناه معطيات الدين في صورة الوحي الخاتم أي دين الإسلام، فالدين، كما هو لائح من البيان النبوي، ذو«مقومات معنوية» تؤسس ماهيته، وبها يتشكل قوام التبعية الاعتقادية والاشتغالية لدى المتدين:

– فهناك المقوم الإسلامي؛

– وهناك المقوم الإيماني؛

– وهناك المقوم الإحساني.

أما المقوم الإسلامي، فله تعلق بحفظ الأوصاف الظاهرة للتكليف، بحيث يعد المتصف بها قائما بشرط الدخول في مسمى التدين بالإسلام، والإخلال بها إيذان بالخروج من ربقة التكليف إلى نقيضه.

وأما المقوم الإيماني، فله صلـة بحفظ الأوصاف الباطنـة للتكليف، بحيث يعد المتصف بها قائما بشرط العقد القلبي الزائد على مجرد العقد الظاهري، والإخلال به إخلال بما سلف اكتسابه في مرتبة الإسلام، ونقض بالتالـي لمشروعيـة التدين بالإسلام.[5]

وأما المقوم الإحساني، فمبناه على تمام الجمع بين ظاهر التكاليف وباطنها، مع تحصيل الإخلاص فيه، وتحقيق التعبد على مقتضى التكامل المفيد في ترسيخ تحقق المتدين بالتبعية الاعتقادية والاشتغالية المقومة للحقيقة الدينية. قال الحافظ ابن حجر مقررا معنى الإحسان: «وإحسان العبادة، الإخلاص فيها، والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود، وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه، وهو قوله: «كأنك تراه»، أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله: «فإنه يراك»، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته».[6]

وقال الإمام النووي: «قوله ﷺ: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، هذا من جوامع الكلم التي أوتيها ﷺ، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى، لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال ﷺ: اعبد الله في جميع أحوالك، كعبادتك في حال العيان، فإن التتميم المذكور في حال العيان، إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال، للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك. وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص؛ احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته»[7].

 

الهوامش:


[1]– كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد بن علي الفاروقي الحنفي التهانوي، ص: 814، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى: 1996م. ويضيف التهانوي قائلا: «ويطلق علىكل ملّة كل نبي. وقد يخصّ بالإسلام كما قال الله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ (…).ويضاف إلى الله تعالى لصدوره عنه، وإلى النبي ﷺ لظهوره منه، وإلى الأمة لتدينهم وانقيادهم». نفسه، ص: 814.وهناك تعريفات أخرى للدين مقاربة لاصطلاح التهانوي منها تعريف ابن مسكويه: «إن الدين وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى». تهذيب الأخلاق، ص: 118، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985.

[2]– فقه التدين فهما وتنزيلا، الدكتور عبد المجيد عمر النجار، ص:9-10. الطبعة: 2، 1995هـ-1416م، الزيتونة  للنشر والتوزيع.

[3]– الحديث أخرجه الإمام مسلم مطولاً في كتاب الإيمان من حديث عمر t، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، والترمذي في كتاب الإيمان، والنسائي في كتاب الإيمان والشرائع، وابن ماجة في المقدمة، وأخرجه الإمام أحمد مختصراً ومطولاً، والبغوي في شرح السنة، وابن حبان وغيرهم، وابن أبي شيبة عن ابن عمر، وروي الحديث من طريق أبي هريرة.وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب الإيمان، ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مختصراً.

[4]– قال الحافظ ابن حجر: «قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة، وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه «المصابيح» و «شرح السنة»، اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة، لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا. وقال القاضي عياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه». فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/154. دار الحديث، القاهرة، 1424هـ – 2004م.

[5]-جاء في فتح الباري ما نصه: «وفي رواية ابن القعقاع، بدأ بالإسلام؛ لأنه بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان لأنه بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقي». فتح الباري،1/145. ونقل النووي عن الإمام أبي عمرو بن الصلاح قوله: «قوله ﷺ: الإسلام أن تشهد أن لا الله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، و توتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، و الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه له يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، و مقويات ومتممات وحافظات له (…) واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام، قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا، أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا». شرح النووي على == مسلم،1/185. تحقيق وتخريج وفهرسة: عصام الصبابطي، حازم محمد، عماد عامر. الطبعة الرابعة، 1422هـ – 2001م، دار الحديث، القاهرة.

[6]– فتح الباري، 1/148.

[7]– شرح النووي على صحيح مسلم،1/193.

تناول المقياس كيفية معالجة مختلف الأديان  في الكريم مع بيان الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية انطلاقا من تقسيم الأديان إلى ديانات توحيدية وأخرى شركية وذكر ما طرأ على االتوحيدية من انحراف وتبديل