Rechercher des Cours par mots clés

Rechercher des cours par Filière :

علم المتاحف

السنة الثانية ليسانس

تخصص فنون تشكيلية

2023/2024المتحف الوطني وهران

قسم الفنون                                                 تخصص فنون تشكيلية

مقياس النقد الفني سنة ثانية ليسانس                                    2023-2024

مدخل إلى تربية النقد الفني

أصبحت ثقافة الناقد من المسائل التربوية المهمة، وكان لابد من تغذيتها عن طريق التربية والتعليم، بيد أن تربية التذوق على اختلاف درجاته ليست سهلة، ذلك أن التذوق يرتبط بعوامل مختلفة بعضها نفسي وبعضها اجتماعي وبعضها أخلاقي، ومع ذلك يبقى هدف التربية التذوقية، تقوية الموقف النقدي إزاء شيء جمالي أو فني. ويتم ذلك عن طريق تقوية ملكة الحدس لديه، وتقوية ملكة الحكم أيضاً.

نظريات النقد الجمالي تفرض من خلال سياقها معايير عديدة ، وهذه القواعد يلخصها الكلاسيكيون بــ ( مقاربة الواقع ، الاخلاق ، التفاعل ) اذ يتخذ من يتمسك بهذه المعايير من العصر اليوناني قدوة في الفن من خلال التزامهم بالتقاليد والشكليات .

تفرض العملية النقدية على الناقد ان يستجيب ويشعر جماليا باعمل الفني من خلال الادارك الجمالي له محكوما بتلك القواعد والسنن ، وهنا تجدر الاشارة الى ان الفرضيات التي تلزم الناقد تحت اي مسمى من النظريات الجمالية يجب ان تجابه برفض الانقياد والاستعداد الدائم الى التخلي او تبني اي واحدة منها وذلك لان حكم الناقد الفني لن يكون صالحا في وجه من الاوجه الجمالية .

اتسم النقد الجمالي في التاريخ بأبسط أنواع الرقابة على العمال والفنيين في العهود البابلية والفرعونية ، اذ كانت هذه الوظيفة تعد تجلي نقدي حرفي على بدائي للاعمال الفنية في غابر الزمان ، الا انها ما انفكت عن التطور وسبر اغوار الاعمال جماليا وفكريا ، تأسيسا على نظريات فلسفية ومنطلقا منها .

ومن ضمن تلك النظريات ( نظرية المحاكاة النظرية الشكلية ونظرية المضمون والنظرية العقلية والنظرية البرغماتية والنظرية المثالية  وغيرها ) ، وهنا يرى الباحث ان المقاربة بين فن التصميم والنظريات المذكورة متصلة بشكل او بآخر بما قدمته البرغماتية من تنوعات فكرية سيرد ذكرها لاحقاً .

وقد ارتبط النقد الفني منذ نشأته بالحكم الجمالي على الفن، ذلك بسبب أن الإبداع الفني ينتج صوراً جديدة تتوافر فيها صفة الجمال. ويقوم النقد الفني على الاختيار الدقيق والتفسير المنظم للإنتاج الفني، وينقل الحقيقة الموضوعية عن العمل الفني ونظامه والمتعة الجمالية التي فيه. وعندما بدأت الحداثة الفنية في الغرب كان على النقد أن يغير من الأساليب التي كانت سائدة قديما في تحليل الأعمال الفنية والكتابة عنها. فقد أصبح النقد الفني عبارة عن نقل وجهة نظر الفنانين من اتجاه فكري معين وتوضيح رموز وأفكار الأعمال الفنية إلى الناس الذين كان من الصعب عليهم فهم محتوى هذه الأعمال، خصــوصاً وأن الفنانين كانــوا متأثرين بفنــون الحضارات المختلفــة.

أما النقد الفني المواكب لحركة الحداثة فكان يقدم التيارات الفنية من جهة ويبحث عن أصولها ومفرداتها في الفنون الملهمة من جهة أخرى. فكان على نقاد الفن آنذاك ترميم وتجميل وعصرنة فهم كل المؤشرات الحضارية الغريبة عنها مكانياً وزمانياً بغية فهم منطق التوليف الفني الحاصل في التيارات الحديثة الأوروبية والحضارات الأفريقية والأسيوية واللاتين – أمريكية، التي بدأت تدخل نتاجاتها تاريخ الفن المعاصر، وقد لاقى هذا التوليف صدى مقبولا عند الذوق العام

المحاضرة الأولى:

معنى النقد الفني ومراحله التاريخية

النقدالفني ومفهومه قديماً وحديثاً: حاول الإنسان  ومنذ وجوده على الأرض، أن يرسم على جدران الكهوف التي سكنها، الحيوانات التي يشاهدها ويتعامل معها ويصطادها، من أجل متعنه وولعه بعمليات الصيد التي تعني له استمرارية الحياة، ولذلك نجح في رسم وتطوير وتجميل هذه الرسومات، وكذلك تطوير أدوات الصيد مكتشفاً الألوان الطبيعية من دماء الحيوانات وبقايا الأشجار والعظام المحترقة وغيرها، ثم عمل في عصر الأسرات والحضارات المصرية القديمة وحضارات بلاد الرافدين قديماً، على وضع أسس وقوانين جمالية ووظيفية لهذه الفنون التي مارسوها، حيث كانت النظرة عظيمة للفنانين والنحاتين والمهندسين والمصممين والمبدعين بشكل عام،  حيث ظل الفن محافظاً (استاتيكياً) له قوانينه لدى تلك الحضارات.

ثم جاءت الحضارة الإغريقية الباحثة عن الجمال بشكل عام،  واضعين له المعايير والقيم الجمالية، وبنسب جميله عظيمة، واضعين فكرًاوفلسفة نقدية للفنون، استطاعوا أن يصلوا إلى النسبة الذهبية، وصوفية الأعداد والنغم .......الخ، حيث كان مفهوم النقد عندهم هو فلسفة تبحث في الجمال، وكان لديهم فلاسفة عظام مثل (سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وفيثاغورس، وغيرهم)، وكذلك الأدباء والشعراء الغنائيين الذين تغنوا بالجمال مثل (هوميروس، وهزيود، وأرابيوس، وغيرهم)، والذين تغنوا بالجمال والطبيعة والمرأة والشباب حيث اعتبروهم ينبوع الجمال. هؤلاء جميعاً مثلوا مدرسةً عظيمةًأثرت بجميع الحضارات جمالياً وفنياً بكافة معايير الجمال،  مطلقين مفردات لازلنا ليومنا هذا نستخدمها مثل الجمال الإسمى، والكمال الأمثل، والمثل العليا والحق والخير والصدق والأخلاق ....الخ.

وتحدثوا عن جمال الروح والعقل والطبيعة والشباب  والشعر والموسيقى، وأثروا على الحضارات اللاحقة واهتموا بجمال الشباب والجسم البشري والذي اعتبروه نموذجاً للجمال.

ثم جاء الرومان والمسيحية التي ربطت الجمال والإبداع بالدين والقوة الالهية،  وأن الجمال والكمال المطلق هو (الله)، حيث استخدم ووظف النقد والفن للدعوة للدين المسيحي، للتأثير على الذوق العام للناس لتوضيح القصص الدينية، حيث رسمت الجداريات والأيقونات في الكنائس والكاتدرائيات، لكي تصل لنفوس المؤمنين لزيادة إيمانهموفهم الدين بشكل جيد.

وفي العصور الوسطى بعد انهيار الدولة الرومانية، خضعت الفنون والنقد الفي لآراء رجال الدين، وكثرت الخرافات والأساطير، وكان لذلك أثره على تراجع الفنون والنقد الفني طوال عصور الظلام الأوروبية.

وفي عصر ما قبل النهضة، بدأ الفن والنقد الفني يتحرر من سلطة الأمراء ورجال الدين، ليصل إلى الطبقة البرجوازية، حيث لبى حاجة الذوق العام لهذه الطبقة، ولا ننسى عائلة(آل مديتشي) وتأثيرها في تقدم وتطور وتشجيع الفنانين والفنون والإبداع الفني.

وفي عصر النهضة العصر الذهبي للفنون ظهر الفنانين العظام أمثال (روفائيل، ودافنشي، ومايكل أنجلو،.......الخ)، حيث أدى ظهورهم إلى الإرتقاء بالذوق العام للمجتمع، وأصبحت هناك رؤية جديدة للحكم الجمالي، حيث ظهر الإبداع الفني الإنساني وحسب (فيلبو البرتي– القرن الخامس عشر الميلادي)، والذي يعتبرمن أبرز نقاد تلك الحقبة، حيث عبر عن رؤية واضحة بأن مصدرالمعرفة البشرية هو من خلال الرؤية الكونية في حدود النفس البشرية، ومن هنا شكلت كتاباته بداية لما عرف بالحركة الانسانية.

وفي بداية القرن (17) الميلادي عندما نشأ علم الجمال،أصبحت هناك استقلالية في التصوير والنحت والشعر وغيرها وظهر ما يسمى (Fine Art)، مما جعل الفنون التطبيقية (Applied Art) ترتبط بالنفعية الصناعية، في حين ارتبطت الفنون الجميلة بالبهجة والمتعة الجمالية.

وفي القرن الثامن عشر اعتمد النقاد الدعوة إلى التذوق الرفيع والأسلوب الرفيع في الفن، وتم ربط الفن بالجمال، والعمل على احترام الحضارات الإنسانية، حيث اتجه الفلاسفة الإنجليز مع نهاية القرن الثامن عشر إلى بناء نظرية جديدة سموها(نظرية الذوق الجمالي)، لتحل محل النظريات القديمة التي سادت منذ عهد أفلاطون،  لذلك ظهر الفكر الجمالي الرومانسي والتاريخي وعصر التنوير الفرنسي، حيث أصبحت فرنسا موئل الفنانين وتمركزهم،  وظهرت المعارض الرسمية، ولعب (نابليونبونابرت) دوراً في تشجيع الفنون، مما هيأ المجال لتمدد النقد والكتابات النقديةوالتي تخص هذه المعارض، حيث أثرالنقد على الذوق العام الفرنسي.ومن هنا نشأت الكلاسيكية الجديدة ورائدها الفنان (دافيد)من أجل تعزيز الروح القومية والوطنية أيام (نابليونبونابرت). من هنا أكد النقد على بث الروح الوطنية والقومية لدى الفنانين، من أجل مجد فرنسا، وظهر العديد من النقاد أمثال (ديوفال، ودي بوسيه، وسان جيرمان وغيرهم).

وفي هذه الفترة ظهر علم الجمال، كعلم مستقل على يد المفكر الألماني (بومغارتن 1735) مؤكداً على المعرفة العليا والمعرفة الدنيا، التي تركز على الحس والشعور، والتي يصعب قياسها، مؤكداً على المعرفة الحسية للأشياء. وهنا كانت بداية التجديد في مفهوم النقد الجمالي، وفي هذه المرحلة ظهرت أنماط فنية جديدة مع تأسيس أاكاديمية الفنون الفرنسية، مثل الكلاسيكية الجديدة التي أكدت على القيم الجمالية، والقواعد المحكمة التفصيل والصرامة لتقدير الفنون، حيث اعتمدوا الجودةللانتاج الفني مؤكدين على مبادئ الإنسجام والإيقاع والتناسق والنظام والهدوء، مستمدين ذلك من الفنون الإغريقية الجميلة، وظهر طراز الركوكو(Rococo) المتمرد على الكلاسيكية،  وكذلك فن (الباروك )أيضاً والذي خرج عن التقاليد السائدة وضد الكلاسيكية، والاهتمام بالأمور الدنيوية بدلاً من الأمور الدينية، مفضلاً التباين بدل الانسجام، وبالجانب الحسي للأشياء.

  وأيضا ظهرت الرومانسية التي غلب عليها الطابع الروحي والحسي، وعبرت عن الخيال المعنوي، وعن اللامتناهي من خلال العاطفة، حيث مثلت الرومانسية الشعور والوجدان.

ومن أبرز المنظرين للرومانسية (هيجل) الفيلسوف الألماني صاحب النظرية الجدلية، وكذلك الفلاسفة (ايمانويل كانت) و(وليم هوجارت)، ومع ظهور الرومانسية تطور النقد الفني ليعبر عن الذوق العام للمجتمع، وداعماً للفن الذي تم ربطه بالظروف السياسية والاجتماعية والحياة اليومية للناس.

ومع ظهور( كانت) تم ربط الجمال باللذة بعيداً عن الماديات،  ومن هنا ترفَع بالفن ليضع نظريته المعروفة ب(الجليل والجميل)، حيث الجليل هو الغموض الذي يجعلنا نؤمن بالحياة والبقاء، والجميل هو الذي يشعرنا بالحب والسرور والارتياح. 

  أما (وليم هوجارت) فقد ربط الجمال بالإحساس، وأن الطبيعة هي معيار مقياس الجمال، واضعاً مبادئ عامة لتميز العمل الفني الجيد والجميل وهي (التناسب، والتنوع، والإطراد، والبساطة، والتعقيد، والضخامة).

  ومع مطلع القرن التاسع عشر وجه الفلاسفة اهتماماتهم إلى (نظرية حب الجمال والإدراك الجمالي) أكثر من تركيزهم على نظريات الجمال أو النظريات التقليدية للفن ( ديلي، 1971)

  في القرن التاسع عشروالقرن العشرين  ومع التحولات للمجتمعات الصناعية والاختراعات العلمية، تبدلت المفاهيم الجمالية  للفن من خلال محاولات الفنانين للتجديد والإبداع لتطوير مفهوم الفن، الأمر الذي دعا هؤلاء الفنانين إلى تاسيس جماعة متجانسه ذات فلسفه خاصة واتجاه فني موحَد مثل  (التعبيرية Expressionism، وكذلك الانطباعيه Impressionism، والباربيزون Fauvism، وكذلك المدرسه الوحشية Postimpressionism)، ومن هنا بدأ التجديد في الفن، وكذلك مع تعدد الاتجاهات والتيارات الفنية، أدى ذلك إلى تشتت الحركه النقدية  وأصبح  لكل اتجاه نقاده ومنظريه، مما جعل النقاد  يقعون في هفوات وخلافات كبيرة (حسب كرومر 1990)، وجعلت هؤلاء النقاد يرفضون بعض الأعمال الفنية الجميلة وذات القيمة لبعض الفنانين، والذين اصبحواأعلاماً مثل  (رينوار، وسيزان، ومانيه، وبيسارو، وغيرهم)، ومن هنا زادت الحاجة إلى النقد الفن في ظل التغيرات الحاصلة في المدارس الفنية الحديثة، وما صاحبها من غموض وتعقيد في بعض مفاهيمها وفلسفاتها، اذ لم تعد الأعمال  الفنية تحاكي الصورة الواقعيه.

  وحسب (كرومر، 1990) فإن بعض النقاد قاموا بدور الوسطاء بين الفنانين والجمهورلتذوق الفنون، وقاوموا بتوفير طريقة للتعامل مع الفن، مرتكزةً على التلقائيه والخيال، ولسد الفجوة بين الفن القديم والفن الحديث،  مما أدى إلى ظهور (النظرية الشكلية)في النقد الفني، والتي فسحت المجال لتقبل الفن الحديث والتيارات المتنوعه الجديدة.

  ويؤكد (البسيوني، 1986) على الحاجة إلى نقد متزن لامغالاة فيه حيث يقول "يجب أن تبرز المحاسن والرؤى الكليه، ويقلل الاهتمام الهفوات كيلا تضيع المعالم الرئيسيه في العنايه غير المحدودة بالتفاصيل".

  وقد ارتبط النقد  الفني منذ نشأته  بالحكم الجمالي على الفن، لأن الإبداع الفني ينتج صوراً جديدة تتوافرفيها صفة الجمال، وأصبح النقد الفني عبارة عن نقل وجهة نظر الفنانين، من اتجاه فكري معين لتوضيح الأعمال الفنيه للناس الذين يصعب  عليهم فهما.

  من هنا نستنتنج أن معنى النقد هو تحليل  دقيق لمحتويات مادة علمية أو عمل فني للتاكد من أصوله وصفاته بقصد تقييمه، وحسب (مغلن هوغتن،  1980)، وكذلك عرَف (اليوت ايزنر،  1972) بأن النقد يهدف إلى إعادة التدريب على الإدراك،  ويزود الفرد بأدوات تجعله يشير إلى زوايا مختلفة من مكونات العمل الفني، تؤدي إلى الإدراك والفهم لمحتوياته.

  والحقيقه أن النقد يعني لنا وصف وتحليل وتفسير وتقييم الأعمال الفنيه من قبل الناقد المثقف بعلم تاريخ الفن، والذي ينظر للعمل الفني كمكوِن متكامل والعلاقة  بين مكوناته، وارتباطها بمجمل  البناء الفني للموضوع.

 

 

المحاضرة الثانية

وظيفة النقد الفني:

  الوظيفة الرئيسية للنقد الفني تكمن في جعل التجربة الجماليةأفضل مما هي عليه، وأكثر إقناعا للآخرين، وأكثر تفسيراً بتوجيه الآخرين،والتوضيح لهم الرموز، ومقاصد الفنان وتعريف الجهود بالقيم الفنيه الجمالية في الأعمال الفنية المتنوعه، وتدريبهم وتعويدهم على الذوق الرفيع.

من هنا نقول أن الناقد هو من يفسر ويصف ويقيّم ويعمل المراجعات النظرية والفلسفية للاعمال الفنية، وهنا تقع على عاتق النقد الفني مساعدة الناس لتحسين معارفهم وفهمهم للفن المعاصر ويأخذ بأيديهم لتذوق الفنون.

دور الناقد الفني:

  هو من يحاول تفسير وتوضيح العمل الفني، برموزه  ومعانيه وبنائه ودلالاته، وربط هذا العمل الفني بالمدارس والتيارات الفنية، والقواعد الفنيه والجمالية، وله دور تاريخي في توضيح الاتجاهات والطرز من الحضارات الآخرى، وكذلك موجه ومرشد ومشجع، ومتبنياً اتجاهاً معيناً، ومن هنا يجب على الناقد أن يكون ملماً بعلم تاريخ الفن، وكذلك الاطلاع على أحدث التغيرات في مجال النظريات الفنية، ليتمكن من مناقشة العمل الفني وفقاً للنظريات المعاصره، ليساهم في تحديد القيمة الفنية والمادية للعمل،  ويوجه ويقوِم الفنانين والحركات الفنية،ويعمل على تطوير ثقافة المجتمع الفنية.

الأصول الجماليه للنقد الفني:

لا شك بأن النقد الفني يجب أن يكون مدخلاً للتدوق الفني، وللتعريف بمكامن الجمال في العمل الفني، وهو في النهايه يقدم الحكم على العمل الفني والفنان المبدع،  لذلك لا بد للناقد من الإلمام بتاريخ الفن، وفي مختلف العصور حتى يومنا هذا، ملماً بخصائص كل حضاره من الحضارات القديمة والمتوسطة والحديثة والمعاصرة، معرجاً على المدارس الفنيه والأساليب الفنية الحديثة، مبيناًإبراز القيم الجديدة وتعريف الناس بها، لأن هذا السلوك الجيد من الناقد يبرز محاسن العمل الفني الجيد من أجل أن تستقيم المسيرة الفنية الجمالية،  وتشجيع الفنون والفنانين من خلال تقديم كل جديد خلاق وجميل، مواكباً المسيرة الفنية مؤكداً على الذوق الرفيع بعيداً عن الشخصنة والتعصب لمذهب فني معين.

خطوات (مضمون النقد الفني):

مما لا شك فيه أن النقد الفني يركز بشكل كبير على الفن الحديث والمعاصر،  وهذا لا يعني إهمال فن الفترات السابقه،وليس عدم الالمام بها،  ولكن سبب هذا التركيز على الفن الحديث والمعاصر هو من أجل تقدم الفنون وتطويرها ولتقدم قيم فنية جمالية جديدةتؤثر بالجمهور المتلقي، وتكريس هذه  القيم في المجتمع، لخلق جيل مفكر مبدع إيجابي، يتذوق الجمال ويمارسه في حياته اليوميه، بعيداً عن التشويهات والسلبيات.

من هنا يرى (ريتشارد سالوم وجاك هوبز، 1991) أن النقد هو بحث منظم للأعمال الفنية ضمن أربع خطوات هي:

الوصف:

يقوم على وصف الناقد للعمل الفني وصفاً دقيقأ، من أجل تأكيد قواعد الفن، وهو أول مواجهة مع العمل الفني، والوصف  يعطي الناقد فرصة الحصول على موافقة الأشخاص الذين يشاهدون العمل الفني، حول ما يقوله الناقد ويكتبه بقلمه، بتعريف العمل الفني مشيراًإلى هذا العمل بكلمات تجلب انتباه المشاهدين، ببراعة ورؤية جمالية واضحة،وأحياناً يكون النقد الفني بغرض كشف مقاصد الفنان من خلال العمل الفني وكذلك أسلوبه.

 وحيث يقول غوته (1872-1811Gautie,)"مثلما ينقل لنا الموسيقي سمفونيته إلى آلات العزف، كذلك الناقد كأنه يصنع عملاً فنياً بقلمه، بتعبيرات جميلة جذابة، مما يعكس على القارئ بهجة وإثارة"، وكذلك (فيلدمان)"يقول الكلمات تستخدم لجلب انتباه المشاهد لشيء يستحق المشاهدة، لمواجهة التفاصيل الغامضة في العمل الفني،  وتبعاً لطبيعة الأسلوبفالأعمال الواقعية سهلة الوصف لأنها واضحة، في حين أن العديد من الاتجاهات والمدارس الفنية الحديثة نجدها صعبة الفهم. وهنا يبرز دورالناقد الذي يصف لنا هذه الأعمال بشمولية ليسهل عليه إقناع المتلقي، ومن هنا فالوصف الجيد الواضح المعبّر يعتمد على الناقد في إقناع الناس بالعمل الفني الماثل أمامهم، من خلال التعريفات الوصفيةلاسم العمل، وخامته، وفكرته، ومقاساته، وتاريخ انتاجه، وبيئة العمل، وسيرة الفنان، وأسلوبه.

عند مجموعة من الباحثين "الوصف بأنه إجراء لعمل قائمة جرد Fildman, 1992) ويعرف فيلدمان لعناصر العمل الفني أو ملاحظة ما هو مرئي فيه مباشرة".

  وعرًف باريت (Barrett, 1994) عملية الوصف "بأنها نوع من الصياغات اللفظية التي توضح خصائص ومكونات العمل الفني، والتي يمكن ملاحظتها وتقديرها، ويبني الناقد علىهذه الصياغات اللفظية تحليله وتفسيره وحكمه على العمل الفني".               

  ولا ننسى بأن تسمية الأشياء التي ندركها باللوحات التجريدية تكون أكثر صعوبة منها في اللوحات الواقعية، وحسب (فيلدمان،1987) (عند مجموعة من الباحثين 1993)،"يحتاج النقاد في حال وصف العناصر التجريديه إلى معرفةأوسع بمجال التقنيات وأساليب الأداء".

المحاضرة الثالثة/ تابع:     

ب- التحليل/ حسب رأي (فيلدمان)"هو إيجاد العلاقه بين الأشكال وتأثير أحدها على الآخر ويشمل التحليل ناحيتين هما":

التحليل الشكلي  (formal analysis):هو الكشف عن العلاقه بين الأشياء والعناصر التي يحددها الناقد في الوصف،  حيث أن اختلاف مواقع الأشكال المتشابهة ضمن العمل الفني يؤثر على المشاهد،  لذا لابد من نظام يربط الأشكال والألوان والملامس والتي تعكس في مجملها التشكيلات داخل إطار العمل الفني.

وحسب رأي(فليدمان،1987، ص357) "أن علاقة الأحجام  والألوان  والملامس وكافة عناصر التصميم، لها تأثيرها على مجمل العمل الفني، لأن عناصر العمل الفني تتفاعل ضمن إطار وكيان واحد يؤثر أحدها في الآخر والآجزاء بالكل".

ويعتمد التحليل كما أسلفنا على الوصف، كما أنه يبحث عن المعاني التي تعكسها الأشكال، سواءاً كانت معاني ظاهرية أو معاني ضمنية، حيث أن المعاني الظاهرية تتعلق بالقيم الفنية، والمقومات الخارجية للعمل، وارتباط العمل بطراز أو أسلوب معين.

تحليل المعاني  (content analysis): أما المعاني الضمنية فتتعلق بالمقومات الموجود داخل العمل الفني، مثل تقديم رمزٍ ما،أو سياق أيديولوجي،أو تاريخي....الخ، وهنا دور الناقد أن يعبر عما أدركه في تللك الأشكال، من خلال الفكرة الموجودة داخل العمل الفني، للوصول لتفسير الغرض الدي أنتج هذا العمل الفني من أجله، لأن الشكل والوظيفة هما محور اهتمام المشاهد لأنهما يشكلان الموضوع الأساسي الذي يركز عليه الفنان.

ج- التفسير: هو عملية البحث في المعاني الكامنة ضمن أشكال الفن، وموضوعاته، والذي قدمه الناقد بالوصف والتحليل من ناحية الشكل والمضمون، وحسب رأي (فيلدمان، ص362)" بأن التفسير هو جملة وتعليق يدور حول العمل الفني ليجعل من جملة المشاهدات التي توفرت لدى المشاهد كياناً واحداً لتصبح ذات معنى".

ومن هنا تكمن مهمة الناقد في مساعدة الآخرين على معرفة الأفكار والمعاني التي يحتويها العمل الفني، ولا ننسى بأن عملية التفسير هي من أعقد خطوات النقد الفني.

ويؤكد (فيلدمان)"أن التفسير يختلف عن الوصف،  اذ يشتمل على احساسات المشاهدين لمضمون العمل الفني وما يشتمل عليه من معاني" (فليدمان،1987، ص362).

  والتفسير هنا يوضح المضمون، وأفضل أنواع التفسير ذلك الذي يستخلص المعاني من أكبر كيان فني بصري، ويربط هذه المعاني بحياة أفراد المجتمع الذين يشاهدونه(فيلدمان، 1987، ص363)، لأن التفسير يعتمد على ثقافة الذي يفسر، من خلال وضع فرضيات حول العمل الفني،  لتفسير المعاني التي تكشف عن القيم الفكرية والمعتقدات والحقائق والتي وصفها الفنان بعمله الفني، ولا شك بأن اللغة التعبيرية التي يستخدمها الناقد سوف تلعب دوراً في تقريب القيم الشكلية والحسية، وتأثيرها على المشاعر، من خلال الأعمال الفنية التي تؤكد على هذه القيم،  ولا ننسى بأن التفسير يقدَم للعمل الفني لا للفنان، وهذا التفسير يساعد على تفسير معنى الفن، وإن اختلف من شخص إلى آخر، ومن فترة زمنية معينه لفترة زمنية أخرى، وأي تفسير قابل لأن يصحح من تلقاء نفسه( باريت، 1994، ص45)

د-إصدار الحكم (Judgment): ويعتبر إصدار الحكم أصعب مرحلة من مراحل النقد الفني، لأنه يترتب على الناقد إعطاء قيمة مادية أو معنوية للعمل الفني، وقد يكون تفاوت من ناقد إلى آخر على إصدار حكم معين، لأن ذلك يعود لثقافة الناقد وميوله واتجاهاته الفنية، حيث يتم التركيز على ثلاثة اتجاهات (أنماط) فنية توجه الناقد حسب مايلي (فليدمان):

الإتجاه الشكلي (formalism): وهذا يعتمد على الطريقة التي يتم فيها تنظيم، وتناسق العناصر الشكلية في التكوين العام للعمل الفني، حيث يكون الحكم من منظار جمالي.

الإتجاه التعبيري ((expressionism : يعتمد هذا الإتجاه على عمق التجربة والخبرة التي يقدمها العمل الفني، وهنا يكمن دور الناقد في قدرته على نقل وإيصال الأفكار والمشاعرللآخرين.

الإتجاه الوظيفي الغائي (instrumentalism): هذا يعتمد على مدى وصول العمل الفني وتحقيقه للغرض الذي وضع أو عمل من أجله، والرسالة التي يجب أن يوصلها العمل الفني للآخرين، سواء كان الهدف ديني أو سياسي أو جمالي أو تجاري ....... الخ.

           وكافة هذه الإتجاهات يعتمدها بعض النقاد في عملية إعطاء الحكم، بينما يعتمد نقاد آخرون على معايير ذاتية أو خاصة، في إتجاه فني معين يناسب أسلوب الناقد في النقد، للحكم على العمل الفني.

       ويرى (مكفي جون، 1970)،أن خطوات النقد تتم على النحو التالي:

الإدراكPerception: وهي المشاهدة الأولى للعمل الفني واستيعابه بصرياً ولحظة التآلف مع العمل الفني بجميع جوانبه.

التنظيم Organization: وهي خطوات تنظيم الأشكال من الجزء للكل، وعلاقة اأشكال معاً ببعضها، ومواقع هذه الأشكال، وتوزيعها ضمن العمل الفني.

الترميزSymbolization: هنا يكون حصر الأشكال وترميزها ضمن تسميات معينة، حيث يستخلص المشاهد مفهوم ما حول العمل الفني.

التعبير Expression: وهي مرحلة يصلها المشاهد بعد الوصول إلى معرفة كاملة بالعمل الفني،  بكافة أجزائه وعناصره، وعلاقة ذلك بالمعنى والمضمون، وهنا يتم التفسير والحكم على العمل الفني، من خلال ماجمعه المشاهد (الناقد) من حقائق ومفاهيم.

وبعد تقديم خطوات النقد حسب (فيلدمان)،وحسب رأي (هوبز)، تبقى هذه الخطوات منقوصة، لأنها لم تدخل جوهر التقييم، وبقيت بعيدة عن تحديد المضمون،  والقيم المختلفة والمتنوعة، وبقيت بدون تفاصيل، حيث اختصرها (بالشكلية، والتعبيرية، والغائية)، مكتفين بخطوات النقد الفني كسلوك ناتج من تفاعل المشاهد مع العمل الفني، بعيداً عن مرتكزات النقد وأسسه، من أجل أن نقرأ العمل الفني بشكل صحيح وسليم، وبشكل منهجي متكامل.

وحسب رأي(البسيوني، 1986، 68)، "الأصل في النقدالفني أن يكون مدخلاً للتذوق والاستجابة للقيم الجمالية في العمل الفني".

 

 

المحاضرة الرابعة:

محاور النقد

إن أبرز المحاورالأساسية للنقد الفني هي التي لا يمكن إغفالها، وتكمن فيما يلي:

الفنان       2-الموضوع     3- العناصر البصريه في الفن   4- الأسس البصريه في الفن

5- مذاهب الفن ومدارسه   6- المضمون    7-وسائط التشكيل الفني   8- القيم الكامنة    9-لغة النقد

الفنان: هو الذي يمتلك الموهبة الفنية، والخلق والابتكار، وهو المسلح بالوعي، والأقدر على تكريس خبرته، وموهبته، وتنميتها بمتابعة تجارب الآخرين وثقافتهم، لأنه ناقل الحضارات عبر العصور والأزمان، وهو من صاغ فكر مجتمعه وبيئته.

ويشكل الفنان أهمية كبيرة للناقد، من خلال سيرتة الذاتية، وأسلوبه، ومدرسته، التي ينتمي إليها، وخبراته،  وثقافته، لأنه ناقل للثقافات والفنون، في الماضي والحاضر، والفنان هو عامل التغير في مجتمعة الصغير والكبير، لأنه المرشد إلى فتح أبواب التذوق للبيئة والطبيعة، ويعالج قضايا مجتمعه، وقادر على تغيير فكر هذا المجتمع، والنهوض بأبنائه وتعزيز انتمائهم لوطنهم وأمتهم، لأنه خير مجسد للأحداث التي تعيشها المجتمعات، ومثال على هذا لوحة الفنان (بابلو بيكاسو) (جورنيكا)، التي أاحدثت ثورة  لدى الشعب الأسباني، لما حملته وتحمله من معان عن الحرب الأهلية الأسبانية عام 1937، وللأسف يقوم النقاد بتجاوز هذا الفنان واستثنائة، بحجة الموضوعيه ليتم التركيز على العمل الفني مما يفقد النقد أحد الأصول التي أثرت في العمل الفني شكلاً ومضموناً.

الموضوع: الموضوع ميدان واسع ممتد، يحدده الفنان، حيث يختلف الموضوع من عصر الى آخر، تبعاً للظروف والملابسات، والبيئة، والمعيشة التي تميز حضارة عن الأخرى.وهنا دور الفنان في اختيار زاوية معينه من هذا العالم الممتد، تلائم المفاهيم التي يطرحها للمشاهد، واختيار جانب من الموضوع هو الفكرة في حد ذاتها، والفكرة هي أساس الإبداع، لأن الفنان هنا يطرح افكاره للآخرين من خلال الموضوع، فعندما يختار الفنان موضوع معين،أو لقطة معينة،  كتأثير شروق أوغروب الشمس على منظر ما، مثل البحر والجبل، هنا يعكس الفنان مضموناً يحمل معان جمالية، تدل على النقاء والصفاء، وتأثير سقوط الشمس على صفحات الماء وجمال الصخور تحت الشمس.

وهنا يأتي دور الناقد، الذي يهمه من الموضوع تلك المعاني التي سيتم ايصالها للجمهور، من خلال العناصر الفنية المختلفة، والإخراج النهائي للموضوع الفني بشكل جميل متماسك، ليعكس أسلوب الفنان وابتكاره، واختلف الموضوع في العمل الفني من عصرلآخر، منذ حضارات الشعوب البدائية، والتي ركزت على موضوعات الصيد والقتال والرقص، إلى الفن المصري القديم الذي أكد على صور النباتات والأشجار والأزهارإلى الحيوانات والحياة اليومية، التي جسدها الفنان المصريلحياة المصريين القدماء، إلى رسومات المراعي وحفلات الطرب، والزخارف الجميلة في القبور والقصور، ونحت المعابد وواجهاتها، حيث حقق النحت المصري،أهدافاً دينية وفنية، عبّرت عن السمو والعظمة والخلود للآلهة، والملوك والأمراء.

وكذلك حضارة مابين النهرين، والذين استمدوا موضوعاتهم من المعتقدات السائدة، والتي ركزت على قوة آلهة الطبيعة، وآلهة السماء والشمس، وآلهة الحب والخصب، والقصص الأسطورية التي تحاكي حياة ملوكهم، فشيدوا القصور والمعابد (الزاقورات) لاسترضاء الآلهه، وشرعوا بعمل التماثيل للأسود والثيران المجنحة، لحماية المعابد والمدن من الأرواح الشريرة، والحيوانات والطيور الخرافية، وكذلك صمموا الأختام الأسطوانية لتنظيم أمورهم.

  وكذلك كان الموضوع عند الإغريق، معبراً عن الجمال الإنساني، حيث قدسوا الآلهة والأبطال، والألعاب الرياضية الأولمبية إرضاءاً لآلهتهم، وعبروا بفن النحت عن قيم جمالية بنسب ذهبية حقيقية،  للمعابد، وتماثيل الآلهه مثل أبولو، وزيوس، وأفروديت، وغيرهم.

  وكذلك الرومان الذين استمدوا موضوعاتهم من الأساطير والقصص الإغريقية، وبنوا القلاع والمعابد والقصور وأقواس النصر والعمائر المدنية.من هنا نقول بأن الموضوع هو محور هام يتمكن من خلاله الفنان طرح أفكاره للآخرين.

 

 

المحاضرة الخامسة:

النقد الفني ــ نظرياته وأنواعه

كثير من الناس من ينظر الى أى موضوع نقدي كأنه مسألة رياضية لا يعرف لها قاعدة للحل، ويجدون أنفسهم أمام مادة جافة لا يستطيعون هضمها وفهم ماذا يقول الناقد وما يرمي ويريد الوصول اليه عن طريق نقده هذاــ واعتقد ــ ان السبب الرئيسي في هذه الحالة هى عدم تدريس العلوم الفلسفية في مدارسنا. وسبب آخر هو عدم دراية وإلمام معظم القراء ــ غير الدارسين للاداب والفنون ــ بنظريات النقد الرئيسية، وأنواع ومعايير النقد عموماً. وهذا يعيق التذوق الفني عند عامة الناس الذين يعمل النقاد جاهدين لرفع درجة التذوق الفني لديهم.

ومن هذا المنطلق رأيت من الواجب إلقاء بعض الضوء لتعريف موجز لنظريات النقد الفني الرئيسية، وأنواع النقد ومعاييرها ليكون حافزاً للاستزادة والتوسع لمعرفة آراء المفكرين وانتقاد لا تتسع له المساحة المتاحة لتناوله هنا ــ اذن ما هى هذه النظريات النقدية التي يرتكز عليها المحللون والنقاد في تحليلاتهم وانتقاداتهم للفن؟ وما هى أنواع النقد الفني ومعاييرها النقدية؟

ونبدأ بالإجابة على السؤال الاول، ونقول إن النظريات النقدية الرئيسية للابداع الفني أربع نظريات وهي:

1/ نظرية المحاكاة.

2/ النظرية الشكلية.

3/ النظرية الانفعالية.

/ نظرية الجمال الفني.

وبطبيعة الحال فإن لكل نظرية من هذه النظريات أعلاه أنصارها واتباعها ومعارضوها من النقاد والفنانين على مدى تاريخ الابداع الفني الغربي وحتى العصر الحديث. ومن أجل محاولة تعريف كل نظرية علي حدة سألجأ للبحث في منشأها وتطورها بنبذة قصيرة قدر الإمكان عن كل نظرية.

أولاً: نظرية المحاكاة: تنقسم نظرية المحاكاة الى ثلاثة أقسام هي:

أ/ المحاكاة البسيطة ب/ محاكاة الجوهر ج/ محاكاة المثل الأعلى.

أ/ المحاكاة البسيطة: وهى أقدم نظرية في الفن على الاطلاق، وقد عرضها الفيلسوف اليوناني افلاطون في مناقشته النهجية لطبيعة الفن في الفكر الغربي، وهى تقول: إن الفن الجميل هو ترديد حرفي للطبيعة وموضوعاتها التجريبية وحوادثها، بحيث يكشف عن تشابه دقيق للموضوع أو النموذج الفني خارج العمل الفني، وبعبارة اخرى قولك عن رواية او دراما أو فيلم سينمائي انه مطابق للحياة، أو قولك ان هذه الصورة مماثلة بتفاصيلها الدقيقة لتلك الشجرة التي نراها في الحديقة، كما لو أنك وجهت مرآة على تلك الموضوعات، وقد وجدت نظرية المحاكاة البسيطة انتشاراً واسعاً من أصوات التجربة المعتادة في عصرنا الحالي بين الفنانين والنقاد وعامة الناس الذين لم يختبروا اعتقاداتهم عن الفن.. ولكن كثيراً من المفكرين اعابوا هذه النظرية بقولهم انه لا يمكن ان يكون العمل الفني مجرد نسخ لحوادث التجربة المألوفة، ويحضرني هنا بيت المتنبي القائل: وقد يتقارب الوصفان جداً وموصوفاً هما متباعدان

ب/ محاكاة الجوهر: نشأت نظرية محاكاة الجوهر وتطورت من خلال نظرية عرضها الفيلسوف اليوناني أرسطو في التراجيديا، وفي تحليله الطريقة التي نحاكي بها الحياة، وتناولها بعض المفكرين من بعده ــ وهى إجمالاً تنطلق من انتقاد النظرية الافلاطونية (المحاكاة البسيطة) التي رفضها تلميذه ارسطو على انها لا تلبي مطالب المضمون في العمل الفني. وهكذا فإن (محاكاة الجوهر) تظهر بوضوح عيوب (المحاكاة البسيطة)، إذ تبين أن العمل الفني الخلاق يفوق مجرد (النسخ) وأن الفنان لا يحاكي بلا تمييز، وعليه أن ينتقي من حوادث التجربة المألوفة ويضفي عليها دلالة حتى يمكننا القول ان هذا العمل الفني ينفذ إلى جوهر كذا او يعبر عن مضمون كذا.. وعليه فإن الجوهر هو ما يشترك فيه جميع أفراد فئة معينة.

ج/ محاكاة المثل الاعلى: وهى نظرية تنزع الى القول ان العمل الفني يجب ان يكون اخلاقياً وتذهب هذه النظريةــ كما في نظرية ( الجوهر) الى ان الفنان لا يحاكي بلا تمييز بل يكتفي بمحاكاة موضوعات بعينها فقط. ويرى مفكروها أن اعظم مزايا الفن هى محاكاة الطبيعة، ولكن من الضروري تمييز جوانب الطبيعة التي هى أليق بالمحاكاة ــ أى بالموضوع اللائق الذي يعد مهذباً من الناحية الاخلاقية وما يستحق المدح والاستحسان ــ وبهذا المفهوم يعني ذلك ان نظرية المثل الاعلى تضع معياراً لقيمة الفن وهو المعيار الاخلاقي، ويرى انصار هذه النظرية أن الموضوعات ذات المستوى المنحط لا بد ان يكون العمل الفني فيها أدنى وأقل مرتبة من تلك الموضوعات ذات المستوى الاخلاقي بالضرورة، مهما ابدى الفنان عبقرية في موضوعات منحطة وضيعة.

والخلاصة يمكننا القول إن نظرية المحاكاة بأقسامها الثلاثة ولو سلمنا جدلاً بالصلة الوثيقة بين الفن والحياة، لحكمنا عليها من خلال مشابهتها للواقع (المحاكاة البسيطة) أو شمولها (محاكاة الجوهر) أو اخلاقيتها (محاكاة المثل الاعلى) تذكرنا دوماً ان الفن يستفيد من التجربة الانسانية، وتحاول تصورها وايضاحها، وأن للعمل الفني حياة خاصة، وعند تذوق العمل جمالياً تكون عنايتنا بالعمل ذاته، واذا اعطينا أهميته الباطنه حقها، لا يسوقنا الى الحكم عليه على اساس وحدته الكامنة وحيويته وفعاليته، كما يتضح لنا من هذا التوتر بين الحياة والفن انه عصب نظريات المحاكاة جميعاً، إلا ان هناك آراء متخصصة، فبعض النقاد يقولون: إن هذه الاشكال الثلاثة لنظرية المحاكاة لا تستطيع أن تقدم لنا أساساً سليماً للنقد الفني، ذلك ان وجود اعمال فنية لا حصر لها خارج عن نطاق هذه النظريات الثلاثة للمحاكاة ومع ذلك فإن هذه النظرية تخدمنا وتقدم لنا بعض الحقائق عن بعض الاعمال الفنية، لكنها لا تقدم لنا الحقيقة الكاملة عن كل الأعمال الفنية.

المحاضرة السادسة

ــ النظرية الشكلية:

تعرف هذه النظرية بأنها من اعقد النظريات النقدية اطلاقاً، وهى على نقيض نظرية المحاكاة تماماً وتعتبر النظرية الشكلية من احدث النظريات النقدية، كما ان مجال استخدامها النقدي يكاد ينحصر في الفنون في السمعية (الموسيقى) والبصرية (التصوير والنحت)، هذا وقد دار جدل كثير ولا زال بين النقاد حول فعالية هذه النظرية في النقد، ايجاباً وسلباً، فبينما يرى البعض أن النظرية الشكلية لم تستطع ايجاد المبررات لمعايير القيمة التي ينفذ بها الناقد إلى حكم القيمة للعمل الفني، وعليه فهم يرون أن النظرية لا تصلح كنظرية نقدية. ومن جهة اخرى يرى البعض أنه يجب على الناقد استبعاد الموضوع وكذلك كل القيم المرتبطة به والتركيز على التشكيل الجمالي المكون للون والضوء في الشكل أو كما يزعم أنصارها.

النظرية الانفعالية: وتعبر بصفة عامة عن وجهة نظر الحركة الروماتيكية في النقد الفني، وتتشعب ثلاثة آراء الاول ــ التعبير عن الشخصية: حيث يعبر العمل الفني تعبيراً عن شخصية الفنان، ويرى ان النزعة الفردية القوية للفنان هى احد المعتقدات الاساسية للفن والرومانتيكي، فللفنان أن يعرض انفعالاته وافكاره بحرية دون أى كبت ــ ثانياً ــ التعبير عن الانفعال وتوصيله: ويرى ان الفن يتجاوز الجمال البحت، لأنه يضم ماهو مخيف، او حزين، قبيح أو مرح، ولكل حججه طالما ان الفنان يمكن ان يعالج أى موضوع. ثالثاً: التجربة الجمالية: ويرى ان الانفعال اساسي للتذوق الجمالي لأن الجمال هو بعينه ما نسعى اليه حين ننظر الاشياء جمالياً.

ونخلص من هذا بالقول الى أننا نرى انه لا بد ان تكون صحة النظرية الانفعالية بشروط مهمة فهى قد لا تصدق على كل فن وكل تجربة جماليةــ لذا لا بد ان تفسر عملية الخلق الفني التي يصبح بها الموضوع معبراً عن... وايضاً كيف يكون معبراً لـ... كما هى مطالبة بتزويدنا بنظام يمكن تطبيقه عملياً للحكم على قيمة الاعمال الفنية وغيرها من الموضوعات الجمالية.

ورغماً عن ذلك فإن النظرية الانفعالية، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك انها أرسخ النظريات الفنية وأجلها وأكثرها فائدة، وهى في عمومها قريبة من اولئك المدعين الذين يصنفون الاعمال الفنية واولئك الذين يستمتعون بها، وعلى كل قد لا تكون النظرية الوحيدة الصحيحة في الفن والتجربة الجمالية، ومع ذلك فحتى اولئك الذين يعارضون ولا يقبلون النظرية يتعين عليهم أن يواجهوا حججها، وأن يتعلموا من استبصاراتها الواضحة.

نظرية الجمال الفني: أما هذه النظرية فلا تلتزم اتجاهاً واحد في بحثها للعمل الفني، وإنما تضم كل اوجه العملـ ـ الموضوع ــ والشكل، والتعبير وما الى ذلك، مما يجعلها مفتقدة الى تحديد المعالم، ويرى انصارها من الخطأ تأكيد أى بعد واحد من ابعاد الفن، الذي يتألف من كثير من العناصر المتباينة وله قيم مختلفة ومتعددة، وعلى نظرية الفن ان تكون من الاتساع بحيث تحيط بهذه جميعاً.

اذاً فإن نظرية (الجمال الفني متسعة وشاملة) أو كما ذهب اليه د. جيروم.

وختاماً لنظريات النقد الفني ننتقل الى الشق الثاني من السؤال الذي اوردناه في المقدمة.

المحاضرة السابعة:

أنواع النقد ومعاييره

٭ يمكن تعريف النقد الفني بأنه محاولة تفسير او توضيح العمل الفني للاهتداء إلى إيجاد مبررات تؤيد حكم القيمة، فقد يفسر لك الناقد معاني كلمات في لغة تجهلها، أو يفسر الإشارات التاريخية في رواية، وربما يفسر معاني الرموز، وقد يتتبع البناء الشكلي ويكشف عن دلالاته التعبيرية. وقد يصف من خلالها تذوقه العمل الفني التأثير الذي يحدثه العمل في المدرك، ومن أهم أغراض النقد إيضاح مبنى العمل وإيفائه، وقد درج النقاد على اسم الوظيفة التفسيرية للنقدــ أى النقد التفسيري، مقابلة للنقد التقديري ــ إلا أن الوظيفتين مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً ببعضها، مع أن إحدى الوظيفتين تفسر، والأخرى تحكم، وزد على ذلك ان النقد التقديري يفترض مقدماً النقد التفسيري، وهذا يعني أن السؤال: ما قيمته؟ يفترض مقدماً السؤال: ما هو؟ على أن العلاقة بين النقد التقديري والنقد التفسيري ليست على هذه البساطة التي نتصورها في أذهاننا، بل المسألة أبعد من ذلك كثيراً، لأن مجرد التمييز بين هاتين الوظيفتين النقديتين قد يؤدي الى تشويه لما يحدث فعلاً في مجال النقد، ذلك ان الوظيفتين تؤديان عملها وتمتزجان وتؤثران كل في الاخرى.. لذا نلاحظ ان كثيراً من النقاد لا يقدمون تقريراً واضحاً صريحاً للعمل، إذ أنهم غير مضطرين لذلك، طالما أننا يمكن أن نصل الى تقدير العمل من خلال التفسير والايضاح الذي يندمج فيه التقدير ويمتزج معه.

إن العمل الفني زاخر ومشحون بالقيم، بحيث عندما نتحدث عنه تتداخل المسائل الواقعية والتقويمية، وذلك جلي في كل قطعة من الكتابة النقدية تقريباً.. ومع ذلك فإن الناقد يجب عليه أن يأخذ الحيطة والحذر، ويجب أن يميز الخيط الرفيع بين الوظيفتين ــ التفسيرية، والتقديرية ــ إذ انهما برغم تلازمهما لهما اغراض مختلفة كل الاختلاف. وإلا وقع في خلط تلك الاختلافات عند تجاهله التمييز مطلقاً.

وبما أننا من الممكن ان نقوم بالتقدير والتفسير على انحاء واتجاهات كثيرة متباينة، نقدم هنا بعضاً من أنواع النقد الرئيسية، الذي يستخدم كل منه مناهج متميزة التي تنبهنا الى جوانب متباينة من القيمة، فبعضها يؤكد اصول العمل وبعضها الآخر يهتم اساساً بتأثير العمل في الشخص الذي يدركه، واخرى تركز اهتمامها كله في البناء الباطن للعمل.

غير أننا نستطيع التعلم من كل نوع من النقد بشرط ان يستخدم معايير للتقدير يمكن استخدامها عملياً، وان يبقى على العمل الفني في تفسيره له ضوءاً واضحاً.. وأنواع النقد خمسة وهى:

1/ النقد بواسطة القواعد 2/ النقد السياقي 3/ النقد الانطباعي 4/ النقد القصدي 5/ النقد الباطن.

1 النقد بواسطة «القواعد»

لا بد لتقدير العمل الفني من معايير للقيمة. فإذا لم يكن الناقد يكتفي بوصف مشاعره فحسب، فلا بد له من فحص خصائص العمل ذاته. غير أنه لا يستطيع أن يدافع عن تقديره إلا إذا استطاع أن يثبت كيف تؤدي هذه الخصائص إلى جعل العمل جيدًا، وبأي الدرجات تؤدي إلى ذلك — وإذن فلا بد أن يكون لديه معيار يعرف به الجودة الفنية ويقيسها؛ هذا المعيار قد يكون هو «مشابهة الواقع» أو «النبل الأخلاقي» أو «القوة الانفعالية»، وبدون هذه المعايير، لا يستطيع أن يدعم حكمه؛ وبدونها أيضًا لا نستطيع نحن أن نفهم السبب في إصداره هذا الحكم.

هذه المعايير تبين، بوجه عام، إن كان العمل جيدًا «في نوعه». فهي تقيس القيمة، لا في العمل المحدد فحسب، بل أيضًا في أعمال أخرى مشابهة له. فنحن نرى أنه عندما تسمى المسرحية «تراجيديا» أو «كوميديا»، فلا بد أن تتوافر فيها صفات شكلية وتعبيرية معينة، يتميز بها ذلك النوع الأدبي. وعندما يصنع نحات تمثالًا لغرض اجتماعي معين، مثل تخليد ذكرى حادث تاريخي، فلا بد أن يكون عمله مرتبطًا بالتراث الاجتماعي، وأن يسهل تذوقه على كل أفراد المجتمع، وهكذا، وبالمثل توجد معايير للسوناتا أو «الفوجية» المحكمة البناء.

غير أن كل شيء، في نقد عمل بعينه، يتوقف على طريقة تطبيق هذه المعايير. فإذا طبقت بطريقة جاهلة، بطل النقد التقديري، وطاش النقد التفسيري عن هدفه.

كان النقد «الكلاسيكي الجديد neoclassical» في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، متمسكًا بالتقاليد والشكليات إلى حد بعيد. وكان هذا النقد، كما يدل عليه اسمه، يتخذ من العصر اليوناني الروماني القديم «أنموذجًا» لكل فن، سواء في الأدب وفي الفنون البصرية. وقد وضع قادة هذه الحركة، ولا سيما بوالو Boileau (١٦٣٦–١٧١١م) قواعد مفصلة لتقدير الفن. وكان يظن أن هذه القواعد تصدق على نحو شامل، لأنها كانت ترتكز على سلطة الفيلسوف أرسطو والشاعر هوراس. وعلى هذا الأساس لم تكن الكلاسيكية الجديدة تشجع التجديد والتجريب في الفن.

ولقد كان نقاد الكلاسيكية الجديدة يصنفون الأعمال الأدبية والتصوير إلى أنواع أو أنماط؛ ففي الشعر مثلًا، نجد وصف الطبيعة، والرثاء، والسونيت sonnet، ووُضِعت قواعد ثابتة تقيس جودة الأعمال التي تنتمي إلى نوع معين، أولى هذه القواعد هي ضرورة احترام الفوارق بين الأنماط الفنية، فلا بد أن يكون العمل «خالصًا»، بمعنى أن يتسم بوحدة الروح والأسلوب، ولا ألا يخلط بين الأنواع الأدبية، وتلي ذلك قواعد لكل نمط معين. مثال ذلك أن أحد نقاد الكلاسيكية المحدثة اشترط أن تشيع روح العقيدة المسيحية في «الشعر البطولي»، وأكد أن «البطل ينبغي أن يكون شخصية تقية أخلاقية» والحوادث ينبغي أن تكون «نبيلة وقورًا».٩ وهذا بطبيعة الحال مثل من أمثلة نظرية محاكاة المثل الأعلى.١٠ كذلك كانت الحركة الكلاسيكية الجديدة تأخذ بنظرية محاكاة «الماهية».١١ ومن هنا وضعت القاعدة التي تقول إن جميع الشخصيات الروائية ينبغي أن تكون من «نمط» محدد المعالم، وأن من الواجب أن تسلك بطريقة متسقة وفقًا لهذا النمط، وينبغي ألا تكشف عن سلوك غير مألوف، أو تعبر عن نزوات شخصية.

ولعل أشهر القواعد الكلاسيكية الجديدة هي «الوحدات الدرامية» الثلاث. وقد عبر كاستلفترو Castelvetro (١٥٧٠م) عن هذه القواعد، مرتكزًا فيها على سلطة أرسطو، فرأى أن من الضروري وجود وحدة للزمان والمكان في الدراما، أي أن المنظر في الدراما ينبغي ألا ينتقل من مكان إلى الآخر، كما أن الزمان الذي تدور فيه الأحداث ينبغي أن يكون متصلًا، وبعبارة أخرى فإن هذه القواعد تحظر وقوع الفصل الثاني — كما في المسرحية الحديثة — «بعد خمس سنوات»، أو في مكان مختلف تمامًا عن مكان الفصل الأول. ولو احتُرمَت وحدتَا الزمان والمكان، لكان من الضروري، في رأي كاستلفترو، أن تترتب عليها وحدة الحوادث؛ ذلك لأن أحداث المسرحية ينبغي، عندئذٍ، أن تكون متصلة ومترابطة. هذه الوحدات — وحدة الزمان، والمكان، والحدث — ظلت تسود قدرًا كبيرًا من الدراما الأوروبية طوال ما يزيد على قرنين من الزمان.

على أن ما يهمنا في هذا المجال ليس تاريخ هذه القواعد، بل إننا نود أن نرى ما هو نوع النقد الفني الذي يترتب على تطبيق هذه القواعد. ومن المفيد لهذا الغرض أن نبحث أولًا حالة ناقد ضئيل الأهمية نسبيًّا، من نقاد الحركة الكلاسيكية المحدثة. ذلك لأن الناقد الهزيل يكشف عن نقاط الضعف الكامنة في مذهب نقدي معين على نحو أفضل مما يكشف عنها ناقد استطاع بذكائه وحساسيته أن يتغلب على نقاط الضعف هذه، والناقد الذي سنختاره ناقد هزيل حقًّا، بل لقد وصف بأنه «أسوأ ناقد عرفته البشرية».١٣

وفي مرحلة متأخرة من القرن الثامن عشر، شنَّ الدكتور جونسون حملة تفصيلية عنيفة على النقد بواسطة القواعد، ولقد كان هو ذاته، مثل بوب، لا يزال ملتزمًا بتراث الحركة الكلاسيكية الجديدة. غير أن جونسون فضح عيوب هذه الحركة بطريقة كانت فعالة إلى حد أنها سددت ضربة قاصمة إلى هذا التراث، وأصبح من الواضح، في نهاية القرن، أن هذه الحركة كانت متجهة إلى الاضمحلال.

والأهم من ذلك كله أن جونسون يميز، بدقة ووضوح، «بين ما استقر لأنه صحيح، وما هو صحيح لمجرد كونه قد استقر.» فما الذي يبرر القواعد، التي تُملى على الفنان وعلى عمله؟ لقد كانت هذه القواعد تعد، تقليديًّا، ذات صحة أزلية. غير أن ذلك أضفى عليها سلطة لا تملكها بالفعل؛ «إذ يتضح، بعد اختبار القواعد الموروثة … أنها أوامر اعتباطية لأشخاص جعلوا من أنفسهم مشرِّعين، ولم يمنحهم هذه السلطة أحد … وبعد ذلك حُظِرت كل التجارب الجديدة للقريحة الفنية بقانون ساعد الخمول والجبن على قبوله بسهولة.» وهكذا ترى أن جونسون لم يقتصر على تحدي القواعد، بل إنه أدانها، على أساس أنها تخنق كل اتجاه إلى التجديد في الفن.

ولقد رأينا كيف التجأ ريمر إلى القواعد في نقده لتراجيديات شيكسبير. أما جونسون، فإنه يوجه إليه لومًا عنيفًا.

إذن، فليس عيب النقد الذي كان يوجهه ريمر هو مجرد استخدامه لقواعد، أو استخدامه لقواعد الحركة الكلاسيكية الجديدة، بل إن العيب هو أن القواعد تطبق بطريقة آلية عمياء. ومن ثَم فإن الناقد يكون عاجزًا، نتيجة لاتباع هذا المنهج، عن تذوق قيمة العمل، ويطيش نقده، سواء أكان تقديريًّا أم تفسيريًّا، عن الهدف تمامًا.

ويترتب على ذلك أن النقد ينبغي أن يبدأ على الدوام باستجابة جمالية يشعر بها الناقد، وربما لم يكن الوصف الصحيح لريمر هو أن إدراكه الجمالي باطل، وإنما هو أنه لم يدرك المسرحية جماليًّا على الإطلاق، ولو كان قد أدركها جماليًّا، لكان من الجائز أن يشعر بقوة العمل، ولكان أكثر ترددًا في تطبيق قواعده؛ «فالغاية» الجمالية، التي ينبغي أن تحكم العملية النقدية بأسرها، لا يمكن أن تتكشف إلا للإدراك الجمالي.

المحاضرة الثامنة: النقد السياقي

يشمل «سياق» العمل الفني الظروف التي ظهر فيها العمل، وتأثيراته في المجتمع، ويشمل بوجه عام جميع العلاقات والعلاقات المتبادلة بين العمل وبين الأشياء الأخرى، باستثناء حياته الجمالية؛ فالإدراك الجمالي يتركز على العمل مأخوذًا على حدة. غير أن العمل، إذا ما نظر إليه بطريقة غير جمالية، كان يوجد في سياق؛ فقد ابتدعه إنسان كانت له سمات نفسية معينة. وكان هذا الإنسان يعيش في مجتمع لا بد أن نظمه وقيمه أثرت في تفكيره وكيانه، وكانت له انتماءات سياسية واقتصادية وعنصرية، وفضلًا عن ذلك فإن العمل، بمجرد أن ينشر أو يعرض، تكون له تأثيرات في الحياة الشخصية والاجتماعية، وللعمل تأثير أخلاقي، كما أكد أفلاطون وتولستوي، فمن الممكن استخدامه لأغراض الإصلاح الاجتماعي، ومن الممكن أن يغير تفكير جمهوره واتجاهاته.

والنقد السياقي contextual هو ذلك النوع من النقد الذي يبحث في السياق التاريخي، والاجتماعي، والنفسي، للفن.

هذا النوع من النقد، في صوره المختلفة، يكاد يكون قديمًا قِدَم النقد الفني ذاته، فبعض الأعمال الفنية نواتج اجتماعية واضحة، لأنها تجسد معتقدات حضارة الفنان ورموزها، وتعكس سمات العنصر الذي ينتمي إليه، وقد ظلت هذه الأعمال، منذ أيام اليونانيين، تدرس في صلتها بالمجتمع، كذلك فإن تاريخ حياة الفنان، في الفنون البصرية والأدب على الأقل، هو موضوع الاهتمام منذ القرن السادس عشر، كما أن التحليل التاريخي للأدب يظهر منذ بداية القرن الثامن عشر.٢٨

غير أن النقد السياقي لم يمارس أبدًا بذلك النطاق الواسع والنجاح اللذين مُورِس بهما في الأعوام المائة الأخيرة، بل إن ظهور النقد السياقي ونموه قد يكون أبرز تطور في تاريخ النقد منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد تمكن السياقيون عن طريق استخدام مفاهيم وأساليب جديدة في التحليل، من الإتيان بقدر ضخم من المعلومات عن الفن، وطبقوا مناهجهم على الفن الكلاسيكي، فضلًا عن المعاصر، وألقوا الضوء على وقائع لم يسمع بها أحد من قبل؛ ففي الماضي كان الفن يُعَد نتاجًا «للجنون» أو «الإلهام»، ومن هنا كان الفن يُعَد بمنأًى عن الدراسة الواقعية. أما النقاد السياقيون فينظرون إلى الفن على أنه ظاهرة تجريبية ضمن ظواهر أخرى، فمن الممكن أن يُدرَس كما تُدرَس الظواهر الفيزيائية أو التاريخ البشري أو النشاط الاقتصادي، ويدل النجاح الذي أحرزته أبحاثهم على صحة موقفهم، فالنقد السياقي في الأعوام المائة الأخيرة هو، في ذاته، واحد من أعظم المنجزات العقلية.

وفضلًا عن ذلك فإن موقف النظرية السياقية من الفن الغربي ذاته قد شجع أيضًا على توخي المزيد من التسامح واتساع الأفق في تقدير الفن، فعندما نعرف الأصل الذي يرجع إليه شيء ما، والمؤثرات التي تحكمت في تشكيله، نصبح أقل ميلًا إلى النظر إليه على أنه يسري على نحو «أزلي» أو «مطلق». وعندما نفهم تاريخه الطبيعي نفهم أيضًا حدوده التي لا يتعداها، فلهذا الشيء قيمة في حدود الموقف الخاص الذي نشأ فيه، لا في جميع المواقف. وهذا يصدق على النظام السياسي، كالملكية، وعلى القانون الأخلاقي، وهو يصدق أيضًا على الفن؛ فالنظرية السياقية وضعت الفن في إطاره الطبيعي، والفن الجميل ليس «سرًّا روحيًّا غامضًا»، وإنما هو ينشأ في ظروف الحياة البشرية، ويفي بحاجات بشرية، وفضلًا عن ذلك، فإن أصول الفن متعددة إلى غير حد، وبقدر ما تؤدي إلى جعل العمل الفني على ما هو عليه في تركيبه الباطن، فإنها تخلق قيمًا مختلفة في النواتج الفنية لمختلف العصور والثقافات، وهكذا ندرك الآن أن الأنواع المختلفة من الفن يمكن أن تكون كلها قيمة «على طريقتها الخاصة». والخلاصة أن النظرية السياقية زادتنا قربة من النزعة النسبية.

النقد الانطباعي

أراد أصحاب النظريات السياقية في أواسط القرن التاسع عشر أن يكونوا، قبل كل شيء، علميين، وكأن المطلوب من النقد الفني أن يقتدي بالعلوم الفيزيائية في موضوعيها ودقتها.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك رد فعل قوي على هذا النوع من النقد، وكان رد الفعل يرجع إلى عوامل متعددة.

أول هذه العوامل هو أن حركة «الفن لأجل الفن» كانت تنادي «بالعزلة» الجمالية، وانطواء الفن الجميل على ذاته. وقد كشف السياقيون عن العلاقات المتبادلة بين العمل الفني وبين أشياء أخرى، وكثيرًا ما كانوا يطمسون القيم الجمالية للعمل أو يتجاهلونها، وعلى ذلك فقد كان من الضروري أن تنتقل حركة «الفن لأجل الفن» إلى الطرف المضاد للنظرية السياقية، وفضلًا عن ذلك فإن النظرية السياقية، أو ما يبدو أنه أشهر فروعها، كانت في نهاية القرن التاسع عشر تبدو وكأنها أخفقت؛ ذلك لأن الحتميين، أمثال ماركس، وتين، قد وضعوا تصميمات مفصلة «للتفسير» المنشئ (genetic) الكامل للفن. غير أن هذه التصميمات ظلت مجرد تصميمات فحسب. ولم يكن من الممكن تفسير الفن أو الفنان على أنهما مجرد نواتج للقوى النفسية والاجتماعية؛ ذلك لأن العبقرية لا يمكن تفسيرها بنفس الطريقة التي تفسر بها الجاذبية.

وفضلًا عن ذلك، فإن أولئك الذين قادوا الثورة على النظرية السياقية تأثروا بالنظرية الوجدانية تأثرًا قويًّا. ولقد قال أوسكار وايلد: «الفن انفعال».٨٣ ولما كان من الضروري أن تثور انفعالات الناقد، فإن الموضوعية، حتى لو كانت مرغوبًا فيها، مستحيلة:

إن النقد الموضوعي لا وجود له، مثلما أن الفن الموضوعي لا وجود له، وكل من يخدعون أنفسهم فيعتقدون أنهم يضعون في أعمالهم أي شيء غير شخصياتهم إنما هم واقعون في أشد الأوهام بطلانًا. فحقيقة الأمر هي أننا لا نستطيع أبدًا أن نخرج عن أنفسنا.»٨٤

وأخيرًا، فقد كانت الحركة الجديدة تشك في جميع القواعد «النقدية»، سواء منها السياقية، والكلاسيكية الجديدة، وأية قواعد غيرها؛ فالقواعد أكثر جمودًا وشكلية من أن يتأثر بها الناقد «الذاتي» الذي يستجيب للعمل الانفعالي، والفن لا يمكن أن يحكم عليه بالقواعد.٨٥

إن النقد الانطباعي لم يبدأ بالانطباعيين؛ فقد كانت كتابات عدد كبير من النقاد السابقين، إلى حد معين على الأقل، أوصافًا لاستجابات الناقد ذاته، والأرجح أن أناتول فرانس كان على حق حين قال إن العنصر الشخصي لا يمكن أن ينفصل عن النقد الفني. أما اللاشخصية الكاملة فكثيرًا ما تتمثل في «إعطاء الدرجات»، وهو عادةً نوع آلي عقيم من النقد، ويكاد جميع النقاد الكبار يكون لهم طابع شخصي مميز.

ولكن، برغم أن لدى معظم النقاد قدرًا من الانطباعية، فمن المشترك فيه أن تكون الانطباعية في ذاتها أساسًا سليمًا للنقد. صحيح أن للانتقادات الانطباعية في كثير من الأحيان، أهمية أدبية في ذاتها. ومع ذلك فلو طلبنا من الانطباعية شيئًا أكثر من ذلك، لوجدناها تخذلنا عادة.

إن الانطباعية لا تضع حدودًا لما يقوله الناقد؛ ففي استطاعته أن يتحدث عن أي شيء وكل شيء، ولو كنا ننشد تفسيرًا لما هو متضمن في العمل، لما استطعنا أن نحصل عليه منه إلا بالمصادفة البحتة، وبالمثل فإنا لا نستطيع أن نتوقع منه تقديرًا معقولًا منظمًا للعمل.

إن آفة الانطباعية هي خروجها عن النطاق الجمالي؛ فالناقد الانطباعي لا يكون له، في كثير من الأحيان، شأن بالتركيب الباطن للعمل، وقيمته، ولا شك أن الخروج عن الموضوع خطر دائم يتعرض له كل ناقد، ولا يوجد أي نوع من النقد معصوم تمامًا من هذا الخطر، وقد رأينا أن هذا يصدق على كل من النقدين الكلاسيكي الجديد والسياقي، ومع ذلك فإن الانطباعية هي النوع الوحيد من النقد، الذي يشجع عمدًا على الخروج عن الموضوع، بل إنه يرحب به، كما هي الحال عند أوسكار وايلد.

وعلى الرغم من أن الانطباعية التامة لا يمكنها القيام بالعمل الذي نتوقع من الناقد أن يقوم به، فإن قدرًا معينًا منها يمكن أن يكون نافعًا له ولنا في آن واحد. وربما أفضل ما يمكنها عمله هو أن تبث في القارئ حماسة الناقد نفسه للعمل، فإذا انتقلت إلينا حُمَّى الحماسة هذه، كان من الأمور شبه المؤكدة أننا سنفهم قيمة العمل على نحو أفضل. غير أن الحماسة وحدها ليست كافية، بل ينبغي على الناقد أن يوضح لنا ما تحمس له، وسبب هذا التحمس.

النقد القصدي

تساءل وايلد، بطريقة بلاغية: «من الذي … يهمه إن كان السيد باتر قد وضع في لوحة الموناليزا شيئًا لم يحلم به ليوناردو أبدًا؟»٩٥ أما خصوم الانطباعية فقد أخذوا الأمر مأخذ الجد؛ فقد كان ذلك يهمهم، ومن هنا قالوا عن الانطباعي: «إننا لن نحرم هذه الروح الرفيعة من لذة مشاعرنا»، ولكنهم سارعوا بالإشارة إلى «أن … الانتباه قد تحول عن العمل الفني».٩٦ ومن المفارقات الغريبة أن نفس التهمة قد وجهت إلى مدرسة تين»،٩٧ في نواحٍ أخرى مضادة تمامًا لما كان يقول به الانطباعيون، وهي المدرسة التي حولت الانتباه من الفن إلى التاريخ وعلم الاجتماع، ومن هنا فقد بذلت في أوائل هذا القرن محاولة لإعادة الانتباه إلى العمل الفني.

وأفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف هي أن «نهتم» بمقصد الفنان، فهنا يصبح السؤال النقدي الرئيسي هو: «ما الذي حاول الشاعر أن يفعله، وكيف حقق مقصده؟»٩٨

على أن النقد القصدي Intentionalist لا يمكن أن يقتصر، من الوجهة التاريخية، على رد الفعل على الانطباعية، فهو يتكرر دوريًّا طوال تاريخ النقد، وهو يتمثل طوال القرن التاسع عشر، بوصفه نتيجة مترتبة على اهتمام الرومانتيكية بشخصية الفنان و«عبقريته»، بل لقد رأينا بوادره تظهر من قبل عند بوب وجونسون، في القرن الثامن عشر، وهو ما زال في عنفوان حيويته في أيامنا هذه، وقد كتب أحد الكتاب في الآونة الأخيرة يقول: «يبدو لي أن أرفع نوع من الاستجابة للموسيقى … هو ذلك الذي يضعنا بطريقة كاملة في علاقة مباشرة مع مقاصد مؤلفها.»٩٩ ولا جدال في أنك صادفت أمثلة للمذهب القصدي في الكتب المؤلفة عن الفن، وفي المحاضرات التي تلقى في الفنون، إلخ.

إن النظرية القصدية هي على الدوام دعوة إلى «التعاطف» الجمالي، هي تحذِّرنا من تأمل العمل «بروح» غريبة عن روح الفنان، على حد تعبير بوب، وبذلك فإنها تحول بيننا وبين البحث عن أمور غير مطلوبة في العمل، ولو تأملنا المذهب القصدي على هذا النحو، لكان فكرة صحية بالنسبة إلى أي نوع من النقد.

وأخيرًا، فحتى لو نجح الفنان، فإن قصده لا يكون بالضرورة الوسيلة الوحيدة، أو أفضل وسيلة، لتفسير العمل، فما إن يخرج العمل إلى حيز الوجود، حتى تكون له حياة مستقلة خاصة به، ومن الممكن أن يفسره مختلف النقاد على أنحاء متباينة، كما تفسره الأجيال المتعاقبة تفسيرات مختلفة، فقد تجد في العمل قيمة مغايرة تمامًا لتلك التي كان يقصدها الفنان؛ بل إن هذا يكاد يصدق في كل الأحوال، إذا وضعنا في اعتبارنا تعدد القيم التي اهتدى إليها النقد في معظم الأعمال الفنية.

النقد الباطن

وهنا نصل إلى أهم حركة نقدية في هذا القرن، وهي الحركة المعروفة في مجال النقد الأدبي باسم «النقد الجديد» The New Criticism.

وهناك عبارة قالها ماثيو آرنولد، ويمكن أن تُتخَذ شعارًا لها، هي: «رؤية الشيء في ذاته كما هو بالفعل»؛ فأنصار حركة النقد الجديد يحاولون تركيز اهتمامهم على الطبيعة الباطنة للعمل وحدها، وهذا يؤدي بهم، في الوقت ذاته، إلى تجنب كل ما يقع «خارج» العمل. «فمن الواجب حصر الاهتمام في القصيدة من حيث هي قصيدة».

ولو قلنا إن حركة النقد الجديد تُفنِّد كلًّا من أنواع النقد التي درسناها حتى الآن، لكان هذا القول صحيحًا بقدر ما يمكن أن يكون مثل هذا التعميم صحيحًا.

فكثير من أبرز الشخصيات في هذه الحركة قد هاجموا النقد السياقي هجومًا مريرًا، إذ يتهمونه بتحويل الانتباه عن «القصيدة من حيث هي قصيدة»، إلى تاريخ حياة الفنان، وإلى علم الاجتماع والتاريخ وما إلى ذلك. ولهذا السبب نفسه يهاجمون الانفعالات المتدفقة عند الانطباعيين، وكل ما هنالك من فارق هو أن الانطباعية تحول الانتباه إلى الناقد ذاته.

ويتميز «النقاد الجدد» بالصبر الشديد، والدقة والعمق البالغين، في تحليلاتهم؛ فعملهم «احترافي» بأفضل معاني هذه الكلمة. وليس من العسير أن نفهم سبب احتقارهم للانطباعية التي تبدو لهم مهوشة مفتقرة إلى التنظيم، ولكن حتى لو لم تكن كذلك، لظلوا يرفضونها لأنها تؤكد التأثيرات التي يحدثها العمل في القارئ.

فالنقاد الجدد يتجنبون عمومًا الحديث عن الانفعالات التي أثارها العمل. وهكذا يقول جون كرو رانسوم John Crowe Ransom الذي يرجع إليه الفضل في اسم «النقد الجديد» على هذه الحركة، إن الناقد ينبغي عليه أن «ينتبه إلى الموضوع الشعري ويدع المشاعر تتولى أمر نفسها».١٠٣ وكما تتجاهل هذه الحركة تأثيرات العمل، فهي تتجاهل أيضًا أصوله. وهي تهاجم النظرية القصدية أيضًا.

وإذن فالحركة النقد الجديد، في نواحٍ معينة، صلة أوثق بالنقد «الموضوعي» في القرنَين السابع عشر والثامن عشر منها بالأنواع الأقرب عهدًا من النقد. فهي تركز الاهتمام على العمل، ويحاول الناقد أن يظل لا شخصيًّا، ومع ذلك فإن حركة النقد الجديد لا تقبل النقد بواسطة القواعد أيضًا، ومن الملاحظ أن النقاد الجدد أكثر اهتمامًا بكثير بالنقد التفسيري منهم بالنقد التقديري. ففي استطاعتك أن تتصفح قدرًا كبيرًا من كتاباتهم دون أن تجد حكم قيمة صريحًا واحدًا، فهم يسعون قبل كل شيء إلى تفسير العمل وإيضاحه، وإذا وجدت عندهم تقديرًا فإن ذلك لا يكون عن طريق تطبيق قواعد؛ إذ إن «النقاد الجدد»، الذين يعرفون تاريخ النقد، يشكون في القواعد، وهم يكرسون جهودهم لتحليل أعمال محددة، ويجعلون التقدير ينبثق عن التفسير، وكما يقول ليفيس Leavis، فإن «جهدي كله منصب على العمل من خلال أحكام عينية وتحليلات جزئية». ومن هنا فإنه لا يلجأ كثيرًا إلى «المبادئ والمعايير التي تقبل صياغة مجردة».١٠٥

المحاضرة التاسعة:

النقد الفني وعلم الجمال

تبدو أبحاث النقد الفني ملازمة لأبحاث علم الجمال بوصفه فرعاً من الفلسفة، ولكنه ينتمي أيضاً إلى الأدب، ضمن مقاييس كان ديدرو [ر] Diderot قد وضعها ولكنها تعتمد في تعريف النقد على الذائقة الأدبية، ولكن الحكم التقييمي على العمل الفني يبقى التعريف الأقرب لمفهوم النقد، ولا سيما أن شرط الجديّة في الحكم ينفي التصورات الشعرية التي لا تنتج حكماً صحيحاً.

ومن الممكن الزعم أن النقد الفني بوصفه علماً قد بدأ أكثر وضوحاً في كتاب «الاستطيقا» الذي وضعه باومغارتن Baumgarten، وقد استوحى هيغل [ر] Hegel ما قاله سقراط [ر] من أن قراءة العمل الفني هي معرفة ماهية الجمال فيه، عندما رأى أن الجمال «حقيقة كلية».

ولا شك أن هيغل يتصور قارئ العمل الفني فيلسوفاً يبحث عن معنى العمل الفني، ولكن كانْت [ر] Kant في كتابه «نقد ملكة الحكم» (1790) أثار مسألة الحكم الجمالي والحقيقة الكلية. واختلف الفلاسفة في تحليل مفهوم الفن وعلاقته بالأدب والعلم والطبيعة والحياة الاجتماعية والعوامل النفسية. ولم يخرج واحد منهم في بحثه عن خيمة الفلسفة، وهذا ما جعل قراءة العمل الفني أو ما يسمى بالنقد الفني مختلفة متعددة الوجوه والمقاصد، فكانت آلية قراءة العمل عند برغسون [ر] Bergson تقوم على الحدس Intuition، وكان الهدف من النقد الفني عند ديوي [ر] Dewey الكشف عن الخبرة، وكانت عند هايدغر[ر] Heidegger تقوم على الدراسة الظواهرية (الفينومونولوجية). ويرى سوريو Souriau أن النقد الفني هو علم يبحث في معرفة أشكال الأشياء وعالم الصور.

واقتحم مسألة النقد الفني عدد كبير من الأدباء والنقاد، مثل بول ڤاليري [ر] P.Valéry وأندره مالرو [ر] A.Malraux وسارتر [ر] P.Sartre وألبير كامو [ر] A.Camus وانتقلت هذه القراءة إلى مجال الدراسات اللسانية السيمانتية عند دي سوسور [ر] De Saussure.

تخضع قراءة العمل الفني إلى دربة ودراسة وإلى موقف القارىء إزاء العمل الفني، وتسمى هذه القراءة النقد الفني critique d’art، والناقد الفني هو متذوق في أعلى درجات نمو الرؤية الفنية؛ لأن ثقافته في فلسفة الفن وفي تاريخه وتقنياته تصل إلى حد الاختصاص، أما المتذوق العادي فليس عليه أن يكون اختصاصياً، بل قارئاً جيداً للعمل الفني، يعتمد في قراءته على ثقافة وممارسة في الاطّلاع على الأعمال الفنية، مما يدفعه إلى اقتناء هذه الأعمال الفنية وإلى تشجيع الفنانين عن قناعة وثقة.

وإذا كان الإبداع الفني يقوم على الحدس ـ أي على العقل والعاطفة ـ فإن النقد يقوم على الحدس أيضاً عندما يمارس أدواره في تحديد المستوى الفني للفنان. وأول هذه الأدوار الدور التصنيفي الذي يقارن فيه العمل الفني بغيره، والمدرسة الفنية بغيرها. والدور الثاني هو دور تاريخي إذ يحدد العلاقة القائمة بين عمل اليوم وعمل الأمس، وبين الأساليب المعاصرة والأساليب التي تتالت عبر تاريخ الفن والحضارة. والدور الثالث إرشادي، وكثيراً ما كان للناقد أثر في تكوين الفنان كما له دور في تكوين الرؤية النقدية عند الجمهور.

وبصورة عامة، فإن الناقد يقوم بدور تقييمي عندما يحدد مشروعية العمل ومستواه الفني، هل هو فن أم لا؟ هل هو فن جاد أم فن هابط؟.

النقد الفني والألسنية

يرى هربرت ريد H.Reed أن الفن لغة رمزية، وعلى هذا يرى علماء الألسنية أن النص الفني بوصفه لغة يتضمن دالاً ومدلولاً. ويكمن دور الناقد في ممارسة قراءة النص قراءة جمالية تخترق ظواهرية الشكل إلى أعماقه، ولمعرفة الشفرات الملغزة أو الملتبسة التي كونت النص. وهذا دور سيميائي تحليلي sémiologie analytique يقوم به الناقد.

ومع أن القراءة النقدية ليست اعتباطية؛ لكنها غير قاعدية أيضاً، فالنظرية السيميائية ليست قاعدة بل هي توضيح لآلية القراءة مع الاعتراف بمسؤولية هذه القراءة إزاء النص الذي أصبح بذاته منتـَجاً ثقافياً حضارياً. ولذلك فإن التنظير السيميائي ليس أيديولوجيا بل هو تنظيم منهجي. وتبحث القراءة السيميائية باستمرار عن طرائق جديدة لقراءة النص وتفكيكه، ورسم المسار في دهاليز النص المعقدة للوصول إلى المدلول الأكثر عمقاً وشمولاً؛ المدلول المنفصل عن الشكل الظاهري والمتصل بالموقف الذاتي، فالعالـَم الذي يكتشفه المتلقي في أعماق النص، عالـَم قد لا يكون المؤلف قد رآه. على أن قراءة النص ليست مجانية، بل تخضع لقيم تتجلى في تحويل التأويل نحو الأسمى إنسانياً وفكرياً.

والقراءة السيميائية قراءة حرة ومسؤولة عن حماية النص الذي أصبح منتجاً حضارياً. ويُقصد بالمسؤولية عدم المجانية في عملية التأويل بل هي تخضع لقيم تتجلى في دفع النص نحو الأسمى إنسانياً وفكرياً.

يدخل الناقد إلى النص من الباب الذي يختاره، فهو حر في فتح عالم الدلالة وإغلاقه من دون التقيد بمدلول مسبق، ولكن دون أن تصبح علاقته مع المؤلف علاقة خلافية أو كيدية أحياناً.

المقياس: أنفوغرافيا

أستاذ المقياس: بوشيبة مصطفى

السنة الجامعية: 2023-2024

  - دروس مادة أنفوغرافيا خاصة بطلبة السنة الثانية و الثالثة ليسانس  -

دراسات سينمائية و فنون تشكيلية

كتاب تعلم التصوير الفوتوغرافي 

باقي المحاضرات في تاريخ الكاميرا ,انواع الكاميرات ,,البيكسل,ادوات التصوير الفوتوغرافي,امتدادات الصورة الفوتوغرافية ,أنواع اللقطات,,زوايا التصوير,قواعد التصوير 

الدروس مرفقة مع مواضيع الاعمال الموجهة 

كل محاضرات التصوير الفوتوغرافي في ملف واح

وهي

مدخل حول اهمية التصوير الفوتوغرافي

تاريخ الكاميرا

انواع الكاميرا 

امتدادات الصورة الفوتوغرافية 

ادوات التصوير الفوتوغرافي

انواع اللقطات في التصوير الفوتوغرافي

زوايا التصوير الفوتوغرافي

قواعد التصوير الفوتوغرافي