Options d’inscription

محاضرة: التدين المغشوش

ثمة تعبير للشيخ محمد الغزالي استعمله في عدة مواقع من كتبه وهو (التديُّن المغشوش)، وعندما استعمل هذا المصطلح فإنه كان يشير إلى ذلك النوع من الممارسات الدينية التي لا تنعكس على سلوك المرء أخلاقا فيقول: “عندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشى. المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شيء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبّه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملا ما في المجتمع فسوف يكون نموذجا للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا”. [من كتاب علل وأدوية] وفي مكان آخر تناول أثر هذا التدين المغشوش قائلا: وهذا “التدين المغشوش يقدم الهزيمة ويصنع التخلف، ويحس الناس معه بالحرج” [من كتاب الغزو الثقافي يمتدّ في فراغنا].

كيف نميّز التديّن المغشوش؟

يمكن القول إن التدين المغشوش هو ذلك النوع من التدين والسلوكيات الدينية الطقوسية والتي تمارس في أوقات معينة مع إغفال الواجبات الأخرى، وعليه فإن التدين لا يقوم بوظيفته في الفرد والمجتمع بل يؤدي إلى عكس ذلك، إذ إن صاحب التدين المغشوش ينظر إلى الدين إما على أنه طقوس شكلية تؤدى دون غايات، أو أنه ينظر إليه من منظور الربح فيلجأ إلى القيام بالأعمال التي يظن أنها –حسب رأيه- تكسبه حسنات فيكثر منها مع إغفاله لواجبات أخرى.

التديّن المغشوش بتصوري يلعب دورا مهما في إبعاد قسم من الناس عن الدين، ذلك أنه يقدم لهم أنموذجا غير سليم وغير صحي عن الدين، فإن لم يؤدِّ المتدين ما ينتظر منه من سلوك أخلاقي، فإن اللوم سينصب على الدين عبر ادعاء أن الدين لم يوفر له أرضية للتصرفات الأخلاقية، غير أننا ندرك من خلال قراءة آيات القرآن أن عمل الخير واجب المؤمن الأول، وهنا نتساءل ما البديل؟

كلنا يحفظ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [أخرجه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد]. وهذا الحديث يحمل بعدا مهما في بيان غاية الدين وهي إتمام بناء الأخلاق. وإن صح لنا استخدام هذا التعبير التدين الأخلاقي فإنه يمكن القول بأن التدين الأخلاقي هو السلوك الديني القائم على ملاحظة الواجب الأخلاقي.

التدين الأخلاقي ليس طريقة جديدة في فهم الدين، بل هو تعبير عن حالة الإحسان التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل المشهور، وهذه الحالة تقتضي وعيا تاما بالله، إضافة إلى وعي بأهمية واجب فعل الخير مع الله عبر استظهار عبوديتنا له، وفعل الخير مع الإنسان، وأخيرا فعل الخير مع العالم من حولنا من حيوانات وطبيعة جعلها الله أمانة في يدنا.

مظاهر.. ومخاطر :
عند التأمل في أصناف ومظاهر التدين الفاسد سنجد أننا أمام تشوهات عديدة، لا يتسع المجال للاستفاضة فيها، بين تدينٍ شكليٍ وتدينٍ منافقٍ، وتدينٍ معتلٍّ (باطن الإثم) وتدينٍ مرَضي يحمل صاحبه نفسا حاقدة وأخلاقا شرسة، وبدل الدخول في خصائص تلك الأنماط الفردية يحسن إرجاعها لجذرها الكلي، بحيث نركز على البيئة التي أنتجت تلك النماذج، والثقافة الاجتماعية التي شجعتها، وتتداخل جذور هذا المشكل بين الاجتماعي والفكري/ العلمي:
فعلى المستوى الاجتماعي لم نحظَ بشكل كاف بتجديد ديني ينفض الغبار عن جوهر الدين ( أو على الأصح لم يتمكن هذا التجديد من الثقافة الاجتماعية)، بحيث أن المعايير الاجتماعية -ـ التي تسربت إلى الثقافة الدينية لظروف تاريخية أو لخصائص نفسية أو اجتماعية للمجتمعات العربية والمسلمة – هي المهيمنة، ومن ثم صبغت التدين بصبغتها، وطوعت المخيال الديني الاجتماعي لصالحها، حتى غدت ثقافة دينية مستقرة؛ وهذا أمر مشاهد في انصباغ كل مجتمع بأولويات وقيم دينية بعينها، ففي أغلب مجتمعاتنا تتعايش قيم المحافظة على الصلاة والصوم والحج، جنبا إلى جنب مع التطبيع النفسي والاجتماعي مع منكرات الكذب والخديعة والغش وغياب الإتقان وغربة الإحسان.. ثم ينطبع كل مجتمع على حدة بنسخة تدينية بها تراتبية قيمية ليست لدى المجتمع الآخر، فذاك مجتمع يعظم الجانب الاجتماعي الخُلقي ويستهين بمقاصد الأخوة والعدل والأمانة العامة، وذاك مجتمع يستهين بالمنكرات الخُلقية لطبيعته المنفتحة، فلشعوب الصحراء تدينهم ولشعوب البحر الأبيض المتوسط تدينهم، ولشعوب الجزيرة العربية تدينهم ولحواضر الإسلام تدينها..ورغم مراعاة الشرع للأعراف، فإن ذلك لا يعني اتخاذها أساسا ولا مرجعا، فهي مكملة ونتاج تفاعل القيم الدينية مع الواقع الاجتماعي، تفاعلا قد ينتج صيغا مختلفة للتدين، ولكنه لا يصادم مقاصد الدين ولا يستبدل موازينه، إنما هو دلالة على حيوية الإسلام وعبوره للمكان والزمان..

إن حقيقة التشوهات المذكورة سابقا هي غلبة السلطان الاجتماعي على السلطان الديني، ولذلك ينتهك الناس وصايا أخلاقية جليلة ويدوسون مقاصد شرعية عظيمة، في حين يعظمون جرم بعض الصغائر ويجعلونها في مرتبة الكبائر، وهي أهون عند الله مما انتهكوه وأعظم في ميزان الشرع مما استحلوه، وبذلك ينشأ تدين اجتماعي مشوه.
أما على المستوى الفكري فقد تسرب إلى وعي الناس نمط سهل للتدين، بدأ قديما في عصور الإنحطاط حين كان القصاص يجلسون فينسجون القصص الدينية الزائفة، ويضعون الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كرر ذِكرا طويلا غير مأثور في سنة صحيحة، فيه إغراب وسجع وتكلف أعطوه صك الجنان، وغفروا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقد أعاد وعاظ معاصرون وخصوصا تيار الدعاة الجدد ووعاظ “تجزئة الدين” من خلال أشرطتهم وبرامجهم التلفزيونية إنتاج هذا الخطاب، فبنوا مفهوما للتدين في أذهان الناس، يباين المفهوم الصحيح للتدين، فهو إما “تدين لذيذ” لا يعرف أصحابه للجهاد مكانة ولا للإصلاح منزلة ولا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبير مزية .
أو هو تدين شكلي ملفق من مجموعة من القضايا الخلافية والطقوس والرسوم، تخدر حس الناس وتشوه وعيهم، فتقصير الثوب وإطلاق اللحية و   ... كليات في مقابل مقارعة الظلمة ورفض البغي وتخليص الناس من أكل الربا ، ومن ثم تسرب فهم شكلي للدين ومفهوم مرتعش للتدين.
يصف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مصيبة هؤلاء العلمية والخُلقية : ” (إنهم) يسمعون أن شُعَب الإيمان بضع وسبعون شعبة ، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب ، ولا فريضة من نافلة ، والتطبيق الذى يعرفون هو وحده الذى يُقرون. إفراط . . وتفريط، والخلاف الفقهي لا يوهى بين المؤمنين أُخوّة ، ولا يُحدث وقيعة! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة، ومن الخلاف الفرعي أزمة. والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة، وهؤلاء تكمن وراء خلافاتهم علل تستحق الكشف!” (كتاب : مشكلات في طريق الحياة الإسلامية).
إن جامع هذين الانحرافين الكبيرين (الاجتماعي والفكري المفاهيمي) هو مناقضة مقاصد الإسلام والتدين الصحيح، وهي انحرافات توشك أن تقضي على الفاعلية الحضارية للأمة، وتشوه ثقافتها الدافعة للخير، وشروط عمارتها المبنية على الصلاح والسلام النفسي والمجتمعي.

الأخلاق والدين .. توأمان لا ينفصلان ووجهان لحقيقة واحدة

ثمة اعتقادات وتصرفات خاطئة تقوم على النظر إلى الدين وفق منطق السوق، فتسعى وراء ما تعتقد أنه سيكسبها حسنات أو ثواب أكثر، وهذا يؤدي إلى أن يغيب عن منطقها ونظرها بعض الواجبات المهمة، وهذا عائد إلى عدم إدراك الشخص لهرم الواجبات وتراتبية الأعمال وعلاقاتها. وهنا يأتي الحديث عن الأخلاق في الدين، حيث تمثل هذه الناحية نقطة مهمة. فالأخلاق تعبر عن الشعور بالواجب في داخل كل واحد منا، والشعور بالواجب يقتضي أن يتجاوز الإنسان نفسه، بتعبير آخر فإن جوهر الأخلاق الدينية ضد الأنانية، لأن الأنانية تقتضي التمركز حول الذات، فلا حديث عن كرم أو محبة أو شفقة أو إيثار، أما جوهر الأخلاق الإسلامية القائم على التجاوز يعني أن يتجاوز الإنسان نفسه لينظر بعين الواجب إلى ما حوله، لذلك فإن فعل الخير غير محدود، فكلما فعلت خيرًا فثمة خير آخر يمكن فعله، وهذا الأمر مرتبط بعدة أمور أهمها معرفة الله ومحبته فكلما عظم هذا الأمر في قلب الإنسان كبرت عنده دائرة الخير، وفي ضوء هذا الأمر نفهم مسارعة أبي بكر رضي الله عنه للتصدق بماله كله أثناء الحاجة، إلا أن التديُّن قد ينفصل عن الأخلاق.

فقد يكون التزام صورة من صور التدين في بعض الأوقات منافياً للواجب الأخلاقي كما لو قام شخص بكثير من النوافل في وقت عمله في حين أن واجب الوقت لديه قد يكون أولى من تلك النوافل فقد يكون ثمةَ رجل غنيٌّ يكثر من بناء المساجد وهو يستغلُّ عُماله في مصنعه بأبخس الأجور بل إنهم رغم الأجر في وضع يحتاجون فيه لأموال من الزكاة.

 في الظاهر هذه الأعمال تبدو محمودة، لكن ولأن ظرف زمانها يقتضي فعل غيرها فقد انتفت عنها -برأيي- صفة الكمال الأخلاقيّ، فإذا عرفت الأخلاق بأنها حسن التعامل، فإن حسن التعامل يحتاج إلى تقدير للزمان والمكان والأشخاص، وإن لم يكن ثمة تقدير حكيم لهذه الأشياء فقد انتفت صفة كمال الأخلاق عنها.

ولعلنا نجد في بعض الأحاديث النبوية ما يدل على ذلك أو يلمح إليه فعن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (دخلت على خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية وكانت عند عثمان بن مظعون قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي يا عائشة، ما أبذ هيئة خويلة؟ قالت: فقلت: يا رسول الله، امرأة لا زوج لها يصوم النهار، ويقوم الليل فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن مظعون فجاءه، فقال:” يا عثمان، أرغبت عن سنتي؟” قال: فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: “فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم”) [أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح والنسائي في السنن].

إن تصرف الصحابي ورغبته في العبادة الكثيرة كان في غير موضعه لأنه أدى إلى تقصير أخلاقي في جانب مهم، ونفهم من تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الصحابي ليس في محله وأنه مُنافٍ لسنته عليه الصلاة والسلام، وأن سنته هي حسن التعامل وأن لكل مقام مقال ولكل ظرف زماني ومكاني خلق وفعل يجب القيام به وفي بعض الأحاديث رأينا الرسول يخفف من صلاته -التي نوى أن يطيل بها- لأنه يسمع بكاء الطفل، وفي هذا إشارة إلى أن الواجب الأخلاقي يفرض اعتبارات لا بد من اعتبارها والسير على أسسها.

أثر العبادات في أخلاق الإنسان

أهم وصف للإنسان المؤمن هو العبودية، فهو عبدٌ لله، لأنه يقوم بالعبادات على اختلافها وتنوعها، إذ إن العبادات طريقٌ يقرب الإنسان من الله تعالى، ولكن هذه الوظيفة المهمة للعبادات مقترنة بتحقيق أهدافها، ذلك أنه لكل عبادة هدف أخلاقي وهذا الهدف يتم الوصول إليه على مراحل عبر وعي الإنسان به وعبر محاسبته وبذله الجهد.

ثمة آيات وأحاديث تناقش الوظيفة الأخلاقية للعبادات، وفي نفس الوقت تحذر من عدم الاهتمام بهذه الأهداف الأخلاقية، ففي عبادة الصلاة المفروضة التي تتكرّر خمس مرات في اليوم والليلة يقول الله تعالى عن أثرها الأخلاقي: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وفي الصيام يقول الله تعالى عنه  {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:  183] فالتقوى درجة أخلاقية وروحيّة يُنتَظَر من الصائم الوصول إليها، وفي أحاديث أخرى يشير النبي عليه الصلاة والسلام إلى أهمية أن ينتبه الإنسان لغايات الكمال الأخلاقي المقصود من العبادات فقال -على سبيل المثال-: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع صيامه وشرابه). [أخرجه البخاري في الصحيح] وقال: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) [أخرجه النسائي وابن ماجه في سننهما]، وهذا الحديث الأخير مهم في بيان أن العبادة لا تؤدي مبتغاها الإيماني ما لم تحقق هدفها في التكامل الأخلاقي.

هذه الأحاديث تخبرنا أن للعبادات روحًا تشكِّل سلوك الإنسان الفاضل، وأنه كما يجب الاهتمام بأداء الجانب الظاهريّ المفروض من العبادة فإنه لا بد من العناية بالوصول إلى الأثر الروحي لها والمتمثل في أهداف التكامل الأخلاقي.

على سبيل الختم

الأخلاق الفاضلة هي ثمرة الدين وأحد أهم غاياته، وكما أن الشجر قد يثمر وقد لا يثمر، فإن التدين قد يثمر وقد لا يثمر، ومن أجل إثمار شجرنا لا بد من بذل الجهد، فالله تعالى يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا} [العنكبوت: 69]

إن تديننا وسلوكنا يعكس فهمنا للدين، غير أن ذلك في الوقت نفسه يشرح للناس الكثير عن الدين الذي نؤمن به، لذلك فإن التدين المغشوش مسؤول عن كثير من المشاكل التي نعيشها سواءً في حياتنا الفردية أو في حياتنا الاجتماعية.

 

 

Auto-inscription (Etudiants)
Auto-inscription (Etudiants)